strong>إسكندر منصور *
قرأت مقالك المنشور في جريدة «المستقبل» في 9 كانون الأول 2007، الذي لا يعبّر فقط عن عدم رحابة صدر بالنقد والحوار، بل أيضاً عن عدم القراءة المتأنّية لنصٍّ منشور في «الأخبار» 7 كانون الأوّل 2007، ربّما ميزته الأساسيّة الصراحة المفرطة التي لا تعرف المجاملة، فجاء ردُّك كيلاً من الاتهامات الجاهزة المعدَّة سلفاً لكلّ من يجرؤ على «التطاول» على «أمين السر» أو يطرح بعض الأسئلة على حركة يساريّة جديدة عقد الكثيرون الآمال عليها. نعم يا إلياس، الذين يتعاطون الشأن العام معرّضون دوماً للنقد، أحياناً النقد البنّاء، و هذا ما قصدته، وأحياناً النقد الذي فيه كثير من التحامل والتجنّي، وأنا غريب عنه.
وهكذا بدأت تضيق مساحة الحوار والنقاش، مفسحة المجال أمام ثنائية تحدّد سلفاً مواقع اللاعبين وأدوارهم وأصول اللعبة. فاللاعب الجديد لا يستطيع أن يختار موقعه، بل عليه أن «يختار» موقعاً معلّباً معدّاً سلفاً لاستقباله. هكذا وفجأة أصبحتُ في لغة إلياس عطا الله «عوني شعبوي» و«ثوري إلهي» و«علماني أصولي» أنشد «الثورة والعلمنة من وراء تلال قمّ». إنّها محاولة كلاسيكيّة للقفز فوق النقاط التي طرحتها في مقالي للتأثير على القارئ وجرِّه لاتّخاذ موقف مسبق من مواقفي النقدية.
أردت من مقالي أن يكون إسهاماً في نقاش غاب عن الساحة السياسية والفكرية في لبنان نحن في أوج الحاجة إليه. أردته نقاشاً وحواراً لكون الأزمة الراهنة في لبنان هي أزمة نظام، يهدّد لبنان ووجوده، ما زال ينتج ذاته كأنّه قدر فيدعو البعض هذه الظاهرة بـ«المعجزة اللبنانية». أتفهّم الأولويات والحاجة إلى الاستقلال أوّلاً لنعود لصياغة نصّنا الجديد: الوطن. لكن أعتقد أنّه لا سيادة حقيقية ولا استقلال حقيقياً قبل الإصلاح السياسي. فعبر النظام الطائفيّ المفتّت يتسلّلون إلى الوطن، يناصرون طائفة على أخرى، فيصبح الوطن لعبة طيّعة في أياديهم؛ وهوية الأيادي كثيرة، منها القريب والإقليمي، ومنها الدولي. نعم، أردته حواراً مع اليساريّين من كلّ مشاربهم. فلست من دعاة وحدة اليسار، ولا أنطلق من فئوية محدّدة. فتعابير «وحدة اليسار» و«الوحدة العربية» و«وحدة المسارين» و«وحدة الأمّة» وحتى «حكومة وحدة وطنية» لا تعني لي الكثير. انظروا يا أهل اليسار. الطوائف عاجزة عن انتخاب رئيس، عاجزة عن تشكيل حكومة، عاجزة عن تعديل الدستور؛ عاجزة عن تأمين استمرارية هذا الوطن. لهذا جاء خطابي عن التمايز صريحاً حتى الاتهام.
لقد ذكرتَ يا إلياس أنّ هناك من يتأبّط «قاموساً من العبارات و المفاهيم... فكلّ من يحيد عنه يكون يمينيّاً إمبريالياً طائفياً رجعياً». نعم هناك كثيرون من كلّ الاتجاهات يتأبّطون «قاموساً من العبارات» الجاهزة والمعدّة سلفاً. وبناء على ردِّك أقول، وللأسف، أنت واحد منهم. أما نصّي النقدي لـ«اليسار الديموقراطي» فلا ينضح بتهم ولا بعبارات جاهزة، بل بقراءة لنصوص وخطب ومقابلات موثَّقة أجراها الوجه الأبرز والدائم الحضور في كلّ المناسبات، والقادم من تجربة تاريخية غنيّة، إلياس عطا الله. فعلى سبيل المثال (فقط على سبيل المثال، من أراد أكثر فليراجع مقالي). لقد ذكرت أنّ الياس عطا الله رأى أن معركة المتن الانتخابية «استكمال لمسيرة الاستقلال ولمسيرة الشهداء، من جبران لجورج لسمير قصير، وأخيراً رفيقنا بيار». وتساءلت: لماذا استبعد عطا الله رفيق الحريري ووليد عيدو من لائحة الشهداء؟ وجوابي كان لئلّا يؤثّر ذلك على درجة التأييد الماروني للرئيس الجميّل. إذا كان عندك جواب آخر فمن حقّ القارئ أن يعرفه. أليس خطابك مشاركة في خطاب طائفي لا يليق بيساري علماني أن يُسهم به؟ أمّا وقد أدخلت مفردات القواميس في النقاش فقاموسك أنتَ يا إلياس، ومن خلال مقالك، يعتبر كل من يحيد عنه بـ«قومجية بالية» وبـ«ثورية إلهية» وبـ«عونيّة شعبوية» و«على صلة وثيقة بمركز البثّ المحلي الإقليمي» (هذه تهمة/تعبير جديد دخل القاموس) وينتظر «الثورة والعلمنة من وراء تلال قم». هل هذا هو مستوى إسهامك في النقاش؟ قل لي ما هي «العونية الشعبوية»؟ الهذا الحدّ من الكسل الفكري وصلت الأمور في أواسط اليسار الديموقراطي وخارجه؟ ألا تستحق هذه الظاهرة (التيار الوطني الحر) التي تعرّضت وما زالت للنقد اليومي لأكثر من سنتين ونصف في جميع وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، وحتى من البطريرك؟ ورغم ذلك ما زالت حاضرة تلقى الدعم والتأييد الشعبيّين. أهكذا تُحلّل الظواهر، وبهذا المستوى الذي يفتقد أدنى معايير التحليل العلمي والموضوعي الذي يؤدّي بالنتيجة إلى اتهام أكثرية المسحيّين اللبنانيين بالغباء والانصياع الأعمى؟
لا حنين لي «لقومجيّة بالية» ولـ«ثورية إلهية» ولست أنشد «عونيّة شعبوية» كما ذكرت في اتهاماتك التي لا أساس لها من الصحة. أنت لا تقرأ، بل تملي على النص ما يجب أن ينطق به. وهذا النوع من التعاطي مع النصّ تنتفي فيه الفوارق بين النصوص، فتراها كلّها مكتوبة بلغة فارسية من منشورات مدينة قمّ. لَمْ أنتمِ في حياتي إلى أيّ فكر قومي، وإن كنت أعشق عروبة اللغة والثقافة؛ ومن أعطى وطنه من أمثال طانيوس شاهين وفرج الله الحلو وكمال جنبلاط وجورج حاوي وسمير قصير ومهدي عامل وحسين مروة وآخرين كثيرين لا ينتظر «الثورة والعلمنة من وراء تلال قم» كما اتهمتني في مقالك. أمّا الإمبريالية، فهل ما زلت تؤمن بوجودها، وأنت القائل بأنّ لك «ملاحظات» فقط على السياسة الأميركية؟ أنا آخذ الإمبريالية على محمل الجدّ. إنّها حيّة تُرزق وفاعلة في كلّ مكان. لقد اختبرها أهل العراق مباشرة وأهل فلسطين ولبنان من خلال دعم الاحتلال في فلسطين، والعدوان الأخير على لبنان خير شاهد على ذلك. الإمبرياليّة ذكيّة تعتمد على سلاح الحداثة والتقدّم والعلم، ولا تحارب بالشتائم كما يحاربها البعض، وأنا لست منهم، بل بالعلم والحداثة والتقدّم لا غير.
نعم، كان نقدي مباشراً وصريحاً. لم أقل شيئاً غير موجود على موقع شبكة «اليسار الديموقراطي» (ربما لم تقرأه وأرجوك بألا تقفله. فلو كان الأمر بيدك ربما أقفلت بعض الجرائد المحلية التي تنشر كتابات نقدية تتعارض مع وجهة نظرك. على الأقل هذا ما لمسته في ردّك). فنقدي لموقفك وموقف 14 آذار من حرب تموز كان أقل قساوة من رسالة زياد ماجد وإلياس خوري «إلى رفاقنا في حركة اليسار الديموقراطي» وما قاله أيضا زياد ماجد في 14 آذار في أحدى مقالاته اللاحقة التي استشهدت بها في مقالي السابق. ونقدي «لديموقراطيتك» كان أقل قساوة مما هو منشور في الصحف على لسان أعضاء في «اليسار الديموقراطي». وأظنك قرأت هذه الكتابات. هذا ما قادني إلى استنتاج أن ما يهمّك ليس الذي يأتي من وراء البحار، بل ممّا يأتي من «المقرّبين» إليك. إنّها محاولة ستالينية ومن خلال الرد على الذين يكتبون من وراء البحار لإسكات إرهاصات أولية بدأت أسئلتها تخرج إلى العلن.
وأخيراً يا إلياس تذكّر في مقالك إنّ جلّ ما تريده اليوم هو «لبنان ديموقراطي مستقل تحكمه دولة من إرادة المواطنين كما هم ووفق الطائف كما هو، خارج منطق الوصاية والدويلات والإرهاب والقتل». وهذا هو جلّ ما أريده أيضاً لا أكثر ولا أقل. هذا كلّ ما يريده أي لبناني يعيش «وراء البحار»، وكأنّ العيش وراء البحار أصبح تهمة في نظرك. نعم أريد وطناً يعيش فيه أبناؤه بكرامة وحرية ومساواة، وطناً سيداً ومستقلاً، وطناً قوّته بقوّة أبنائه، كل أبنائه، جيشاً ومقاومين. وطناً جيشه يربض في جنوب جنوبه يحمي أرضه كلّ أرضه من عدو حاقد ويستمد كبرياءه وخططه الدفاعية من حكايات مقاوميه، بما فيها حكاية المقاوم إلياس عطا الله، التي هي جزء مضيء في تاريخ لبنان.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة