صباح علي الشاهر *
جوهر أزمة الثقافة والمثقّف يكمن في العلاقة بين رجل الحكم والمثقّف. يبدو أنّ في الأمر تعديلاً، لا أحسبه طفيفاً لأحد طرفي معادلة تبدو أبدية. عذرنا في إبدال رجل السياسة برجل الحكم، أنّ أصل العقدة هو ليس بين السياسي والمثقّف بقدر ما هو بين رجل الحكم والمثقّف. فالسياسي قد يكون مثقّفاً، ومثقّفاً من طراز فريد. لكنّ الفهم غير السليم للسياسة يُخشّب المثقّف داخل السياسي، ويخرجه بالتالي من دائرة الثقافة والمثقّفين. وفي الحقّ، فإنه ليس كلّ رجل حكم سياسياً، ولا كل سياسي رجل حكم. ونقصد برجل الحكم الحاكم، الذي هو بدوره قد لا يكون رجل حكم، بل هو حاكم فحسب، فكثير من الحكّام في عالمنا العربي لا يفقهون في أمور الحكم شيئاً، باستثناء استعمالهم للوجه البشع للسلطة، ألا وهو القوّة والبطش والترهيب والترغيب وكمّ الأفواه.
العلاقة بين الحاكم والمثقّف معضلة ولا أبا حسن لها... هي ليست وليدة يومنا وعصرنا، بل هي شيء موجود منذ أن انقسم الناس لحاكم ومحكوم. يتحكّم بهذه العلاقة نزوع يتلبّس المثقّف الحقيقي لإثبات الحقيقة وإشاعتها والدفاع عنها، بمواجهة نزوع طاغ لدى الحاكم، وما يمثّله، في ابتسار هذه الحقيقة وطمسها لشتّى الأسباب والذرائع.
وقبل الاسترسال في موضوعنا، دعونا نحدّد ما الذي نعنيه بمفردة «المثقّف» و«المثقّفين». نقصد بالمثقّف والمثقّفين تحديداً شغّيل وشغّيلة الفكر، أولئك الذين يتوسّلون بوسائل إبداعية، فنية أو أدبية، لتقديم إسهامهم الذي لا بدّ منه لعملية الارتقاء والنهوض بمجتمعاتهم. إنهم جزء من الإنتلجنسيا، لكنهم ليسوا هم الإنتلجنسيا فقط. هم جزء من المثقّفين، لكنهم ليسوا هم وحدهم المثقّفين حصراً. إنهم جزء من الجسم الثقافي. جزء هام وحيوي، بالغ التأثير وشديد الفعالية والديناميّة، لا غنى للحاكم والسياسي عنه. يحتاج إليه المواطن والوطن مثلما تحتاج إليه الأحزاب والأيديولوجيات والطائفة والعشيرة. الكلّ بحاجة إليه، والكلّ يرتاب منه، باستثناء أولئك الذين يخاطبهم أو يوجّه إبداعه لهم، ألا وهم عامّة الناس وسوادهم الأعظم. إنّهم يمحضونه الودّ والحبّ حتى لو كانوا لا يفهمون ما يقول. لسان حالهم يقول: إنه أديبنا، شاعرنا، فنّاننا، يعبّر عنّا.
يحضرني في هذا المجال موقف عبّر عنه شاعر تشيلي العظيم بابلو نيرودا. يقول نيرودا في مذكّراته: استُدعيت ذات يوم إلى اجتماع لعمّال المناجم، ولم يكن معي شيء من قصائدي التي تتناسب والمناسبة، فقرأت على العمّال، الأمّيين أو أنصاف الأمّيين، المتّسخي الوجوه، قصائد من المرحلة السوريالية، ولم أُدهش عندما استقبل العمّال هذه القصائد بحماسة منقطعة النظير. لكن المرافقين لي من الأدباء عبّروا عن دهشتهم، إذ من أين لهؤلاء العمّال فهم قصائد لا يفهمها حتى المختصّون بعالم الشعر، قلت لهم: أمّا أنا فلم أتعجّب، هؤلاء لا يصفّقون للقصائد التي لم يفهموها قطعاً، لكنهم يصفقون لشاعرهم، للسان الذي يرونه معبّراً عنهم.
وهذا يفسّر لنا تحديداً لماذا يُعجب فلاح في هور السفطة جنوب العراق بشاعر كالجواهري، أو سعدي أو السيّاب. إنّهم يرون أنّ المثقّف المبدع مثقّفهم، وهو لن يخونهم، وهذا ما يفسّر لنا لماذا يحظى المبدع أديباً وفناناً بكلّ هذا الحبّ والتقدير وسط الجماهير البسيطة من الناس التي لا حظّ لها من الثقافة، ولا قدرة لها على تذوّق العمل الإبداعي المنجَز، مثلما يفسّر لنا موقف الشكّ والريبة والاحتقار المُبطَّن للمبدع من الحكّام ودهاقنة المال. إنّهم يعرفون بداهة وبالفطرة أنّ المنتج الإبداعي لهذا المبدع أو ذاك، ليس لهم، بل هو للحقيقة، للحياة ولمن يصنعون هذه الحياة.
المثقّف هو كلّ من حاز مستوىً معيّناً من الثقافة يؤهّله لفهم نفسه وما حوله، هذا التحصيل الذي يهيّئه للإدلاء بدلوه في شؤون الأمة والمجتمع. وقد يتحوّل المثقّف إلى مُبدع، إذا أصبح منتجاً للثقافة في حقل من حقول اختصاصه، حيث تصبح هذه الثقافة التي أنتجها مادّة استهلاكية للغير. وقد يكون المثقّف المبدع (مُنتج الثقافة) أديباً أو فناناً، مهندساً أو طبيباً، مُزارعاً أو أستاذاً، رجل دين أو رجل سياسة... ومن أجل لمّ موضوعنا في أضيق نطاق، فإننا سنركّز حديثنا على المثقّف الذي حقل اختصاصه الفكر، كاتباً، شاعراً، مؤلفاً، فناناً في كلّ الاختصاصات، فيلسوفاً، مؤرّخاً، صحافياً... وسنترك الحديث عن بقية المثقّفين لموضوع آخر.
المثقّف من هذا النوع يعيش وينمو بعيداً عن السلطة بنوعيها، سلطة الحكم، وسلطة رأس المال، وغالباً ما يكون العظام منهم في صراع مع السلطة، والحديث هنا عن السلطة في بلداننا، وهي سلطة مشوهة شوهاء بالغة البلادة والتخلف.
عبر التاريخ، كان المثقّف من هذا النوع ضحيّة قمع السلطة. كان يخضع باستمرار لضغط السلطان، وإغراء المال. فإن انساق للمنطق الذي يستوجبه مبرّر وجوده، فإنه سيكون إمّا ممّن يقضي بقية عمره في طامورة، أو ممّن يختتم حياته بقتل مُعلن أو آخر مُريب. وإن خضع للضغط وهادن، فإنه لن يعدو في أحسن الأحوال أن يكون من زمرة وعّاظ السلاطين، حيث يصبح ممتهناً للتزوير والمدح وتزييف الحقائق. لقد أسهم المُثقف المُدجَّن في إضفاء صدقية زائفة على وقائع سُمِّيت تاريخية، وما هي بوقائع، وما هي بتاريخية، بل هي أباطيل واختلاقات. وأسهم في طمس حقائق أدى طمسها إلى فقداننا لتراكم حقيقي لتجارب اجترحها أجدادنا. إنّ تزييف الواقع وطمس حقائقه، هو عملية شديدة البشاعة لاغتيال التاريخ وإبطال الوعي، بحيث بات حتى معاصرونا، يتحدّثون عن علي رضي الله عنه، ومعاوية رضي الله عنه، مساوين في رضى الله علياً بمعاوية!
* صحافي عراقي