مصطفي بسيوني *
أتاحت تصريحات المسؤولين في مصر في شأن إلغاء الدعم عن بعض السلع المجال لتوقّعات كثيرة، من بينها اندلاع انتفاضة شعبية واسعة النطاق على غرار انتفاضة كانون الثاني 1977. وإذا كان حديث الحكومة المصرية عن الدعم قديماً، إلا أنه قد تحوّل في الفترة الأخيرة من شكاوى الحكومة من ثقل مخصّصات الدعم على الموازنة العامّة للدولة، والحاجة إلى الترشيد، إلى اقتراحات عملية مباشرة تقضي بتحويل الدعم السلعي إلى دعم نقدي وإلى تساؤلات جدّية عمّن يستحق الدعم، ومن لا يستحقّه في تزامن مع موجات ارتفاع في الأسعار جعلت حديث الحكومة أقرب إلى الفعل.
ترتبط قيمة الدعم في مصر بحجم الفقر واتساعه وحدّته. يشير تقرير للسفارة الأميركية في مصر، استناداً إلى بيانات البنك الدولي لسنة 2006، إلى أنّ نسبة الذين يعيشون تحت خطّ الفقر (أقل من دولارين في اليوم)، وصل إلى 52 في المئة من الشعب المصري، أي 40 مليون مواطن. ويشير أحمد النجار الخبير الاقتصادي في تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية (الصادر عن الأهرام 2007)، إلى أنّ عدد من يعيشون تحت خطّ الفقر المدقع (أقل من دولار واحد في اليوم) لا يقل عن 3.5 ملايين مواطن. لكن هذا الرقم يبدو متواضعاً إذا نظرنا لمستويات الأجور التي يتحدث عنها التقرير نفسه مقرراً أن الحد الأدنى للأجر المقرر رسمياً يقل عن 20 دولاراً شهرياً.
هذا مع العلم أنّ معدلات ساعات العمل في مصر من المعدلات المرتفعة على مستوى العالم وتتراوح بين 54 إلى 58 ساعة أسبوعياً حسب تقارير البنك الدولي وبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. ويضيف التقرير نفسه أن أجر خريج الجامعة في الجهاز الحكومي المصري يبلغ 150 جنيهاً شهرياً، أي 87 ,0 دولار يومياً. وإذا أضفنا نسبة البطالة التي تقدرها الإحصاءات الحكومية بـ 10.9 في المئة، بينما ترى التقديرات المستقلة أنها ضعف هذه النسبة، وتصل إلى 22 في المئة من قوة العمل، أي 5 ملايين إنسان، فإن مسألة الدعم ستبدو في ظل أوضاع كهذه مصيرية لقطاعات واسعة من السكان، وخاصة أن ارتفاعات متتالية في الأسعار قد تكفلت بالفعل بزيادة معاناة القطاعات الفقيرة في مصر، فيما تقرر البيانات الرسمية أن معدلات التضخم في مصر في كانون الثاني 2007 وصلت إلى 12.4 في المئة. إلا أن تقرير السفارة الأميركية في مصر يؤكّد أن نسبة التضخم أعلى بكثير مما تذكره الحكومة. ويرى إبراهيم العيسوي أستاذ الاقتصاد في دراسة له بعنوان «الاقتصاد المصري في ثلاثين عاماً»، أن متوسط الأجر الحقيقي للموظف في مصر قد تراجع بين 1982 و 2005 بمعدل 1 في المئة سنوياً، وبشكل عام فإن مستويات الأجور في مصر تعاني خللاً شديداً، سواء في القطاع الخاص أو الحكومة.
وتشير بعض التوقعات إلى أنه في حال إلغاء الدعم فارتفاع الأسعار في السلع الأساسية سوف يصل إلى أكثر من خمسة أضعاف بالنسبة إلى الخبز وعشرة أضعاف للغاز. ويتراوح ارتفاع باقي السلع بين النسبتين، ما قد يجعل حياة السكان مستحيلة. إن انخفاض الحد الأدنى للأجور في مصر لا مثيل له (في الجزائر مثلاً، هو أعلى من مصر بأكثر من ثمانية أضعاف)، وهو يعوض بشكل نسبي من طريق دعم الدولة للغذاء والكساء والتعليم والصحة والإسكان، وهو ما جعل قضية الدعم شكلاً من أشكال العقد الاجتماعي الذي يقبل بموجبه الفقراء أجوراً أدنى كثيراً من الأجور المفترضة، على أن تقوم الدولة بدور اجتماعي أكبر.
ومع ذلك، فقد جرى الإخلال بالدعم من جانب الدولة لفترة طويلة، قبل التصريحات الأكثر جرأة عن إلغائه. ويظهر هذا من متابعة تطور مخصصات الدعم في الموازنة العامة للدولة. ويشير العيسوي إلى أن نسبة الدعم من الإنفاق العام انخفضت من 28 في المئة خلال النصف الثاني من السبعينيات إلى 8 في المئة عام 2004/2005. ويعني هذا أنه على الرغم من ارتفاع القيمة المطلقة لبند الدعم في الموازنة العامة للدولة بحيث وصل عام 2007/2008 إلى 55 ملياراً و673 مليون جنيه، إلا أن قيمته بالنسبة إلى الإنفاق العام قد انخفضت. وحسب الدراسة نفسها، فإن نصيب الفرد من الدعم المباشر انخفض بمعدل 3 في المئة سنوياً في الفترة ما بين منتصف السبعينيات وحتى 2005، وانخفضت السلع الغذائية المدعومة من 20 سلعة إلى أربع سلع، وتقلص عدد المستفيدين من الدعم.
إن هذا الانخفاض في الدعم السلعي قد تزامن مع تراجع الدولة عن الإنفاق على التعليم والصحة والإسكان والخدمات، بحيث ارتفعت تكاليفها جميعاً على المواطنين في الوقت الذي لم ترتفع فيه الأجور بما يخفف من وطأة الغلاء.
وفي ظلّ الفروق الاجتماعية الشاسعة، يزداد تأثير ارتفاع الأسعار، والإفقار المستمر لقطاع واسع من السكان، ومعدلات البطالة العالية، والمظاهر الأخرى للبؤس المدقع. فالتوسع في سكن العشوائيات ـــــ مدن صفيح منعدمة التخطيط والخدمات ـــــ يقابله على الجانب الآخر توسع في بناء المنتجعات السياحية ومدن الأغنياء المعزولة عن مجتمعات الفقراء، والإنفاق الترفي. وانخفاض الأجور تواكبه أرباح طائلة في صناعات واحتكارات محمية بمراكز سياسية. كما أن خفض الدعم وخفض الإنفاق على الصحة والتعليم والإسكان يقابله تيسير وإعفاءات للمستثمرين وزيادة الإنفاق على تجهيز البيئة اللازمة للاستثمار.
هذا ما يعطي للأزمة بعدها الطبقي، فالمشهد الاجتماعي يجعل الفقراء يرون بوضوح أن الإفقار الذي يعانونه واعتداء الدولة على الحق في التعليم والغذاء، وتآكل الدعم والتهديد بإلغائه كلياً، ليس إلا ثمناً لرفاهية شريحة محدودة في المجتمع من أصحاب الثروة والمتنفذين. لكن اللافت للانتباه أن حديث الدولة عن الدعم والإجراءات المزمع إنفاذها وآثارها الوخيمة يأتي في اللحظة التي بدأت فيها مقاومة اجتماعية واسعة النطاق. فعلى مدى 2007 تحركت قطاعات واسعة من السكان في مصر وظهرت احتجاجات اجتماعية على نطاق واسع ورفعت مطالب اتصلت بالأجور والخدمات. وكأن الدولة قررت أن تمضي في تحدّي الجماهير واختبار صبرها إلى أقصى نقطة ممكنة. فبينما يعبِّر مسؤولو النظام المنتمين للجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم، التي يترأسها جمال مبارك، صراحة عن نيات إلغاء الدعم بطرق متعددة وتحت مسميات ومبررات مختلفة، ينتقد مسؤولون أكثر حنكة وخبرة هذه التصريحات، ويحاولون التقليل من تأثيرها، مثلما فعل زكريا عزمي رئيس ديوان رئاسة الجمهورية في البرلمان.
ومن المتوقع أن تكون ردود الافعال على إلغاء الدعم ـــــ إن حدث ـــــ أكثر تعقيداً مما جرى في كانون الثاني 1977، عندما قرّر أنور السادات إلغاء الدعم ورفع الأسعار. يومها وقعت انتفاضة شعبية عامة لم تتوقف إلا بإلغاء السادات لقراره. أمّا اليوم، فقد برزت قدرة المصريين على تنظيم احتجاجات ضخمة لفترات طويلة نسبياً، وفي ظل شروط صعبة، ما يجعل الهبّات العفوية أقل احتمالاً، ويضفي درجة من النظام الذاتي على ردة الفعل المتوقعة. كذلك فإن تراجع السادات عن قرارات رفع الأسعار في 1977، بعد 48 ساعة من صدورها، لتهدئة الأوضاع، كان أمراً ممكناً، فقد كان الرجل في مستهل مسيرته للتحول الاقتصادي. أما اليوم فقد قطع النظام المصري شوطاً طويلاً في مسيرة التحول هذه، ترتبت عليه أوضاع وارتباطات ومصالح في الداخل والخارج، لا يبدو التراجع عنها ممكناً، لا في 48 ساعة ولا في 48 يوم. فالسياسات الاقتصادية الجديدة أصبح لها من يدعمها ويدافع عنها إلى النهاية داخل دوائر الحكم والثروة، وهؤلاء يستندون إلى تأييد أميركي. كذلك فإنّ الأوضاع في 1977 سمحت بتوفير بدائل لامتصاص الأزمة، كان أهمها الهجرة إلى البلدان النفطية، وكانت الدولة لا تزال ملتزمة تعيين الخريجين وملتزمة باقي دورها الاجتماعي.
وغياب هذه البدائل اليوم يفاقم بالطبع آثار الأزمة وردود الأفعال. لقد خطا النظام المصري أول خطواته الجديدة في التحول في 1991، بعقده اتفاقية مع صندوق النقد الدولي بعد فترة تمهيد طويلة. ورغم أن مسيرة النظام لم تواجهها مقاومة كبيرة لفترة، والمقاومة التي ظهرت أمكن التغلب عليها، مثل مقاومة الفلاحين لنزع الأراضي، فإن آثار سياسات التحول الاقتصادي تقوم بفعلها الآن في تحفيز مقاومة اجتماعية وجماهيرية لم يألفها النظام الحاكم في مصر، ربما منذ منتصف القرن العشرين.
* صحافي مصري