نسيم ضاهر *
تستقي الرؤية الرئاسية من خزين التجربة الديموقراطية المتناسلة صيغاً ونظماً، وتنهل عفويّاً من خلاصات على تقاطع مدارس التاريخ والعلوم الإنسانية. ولئن أضاءت الدراسات الحديثة على جوانب النشاط البشري من زوايا مختلفة، وتفاوتت في تعريف العناصر الأساسية والمسبّبات الكامنة وراء السلوكيات وترتّبهم، إلّا أنها آثرت جميعها عدم الحسم القاطع في ميدان مادّته حيّة متغيّرة تتداخل فيه النوازع، ويعمل اللاوعي في تبدّل توجهاته.
عليه، يمتنع عن أبغض المجادلة ومقاربة الأمور من باب الوجوب والحقائق المُعلّبة، فالسياسة إدارة للشأن العام لها، أصول وحدود، مزيج من احتكام وتحكيم متواصلين بين قواعد ومقترحات، ييسّرها التجاوب مع مشتركات الرأي العام، ويُعوِّقها الوعد الوردي بغير المتاح، دليلها المصلحة العامة بوصلة تقود إلى برّ الأمان. وهي، على قول ماركس، صناعة بشرية إرادية في المكان والزمان، شرطها وضعي، قائمة على الفعل المرسوم ضمن ظروف معيّنة، هي بدورها حاصل تاريخ وواقع اجتماع يقيّدان العامل الذاتي أو يسمحان بتزخيم طاقته ومراده.
ينحو تلمّس الظواهر إلى تعدّد في التفاسير بقدر الابتعاد عن المادّي المحض، والعبور إلى دائرة الممارسات الاجتماعية بلوغاً لتبلورها السياسي في اللوحة والمحدّدات. فلو توخّينا التمعّن في متون النصوص المعروضة رسائل إلى الشعب اللبناني، لوجدناها مبنى مثلّث الأضلع بمثابة محاور متكاملة متفاعلة عناوينها الدولة والوطن (الأمّة في المفهوم السوسيولوجي) والمواطنة، وجميعها ذات تكاوين غير مكتملة في حاجة إلى مقوِّيات عضوية وأوتاد.
تُدرَك بداهة اختلاف النُّظم السياسية تبعاً لمحمول التاريخ وطبيعة البيئة المجتمعية المُنبثقة من مساره. فوفق مصنّف برتراند بادي وبيار بارنباوم لأنماطها، ثمَّة تدرّج في الأنساق قياساً باجتماع الدولة والمركز (فرنسا)، أو حيازة دولة دون مركز (إيطاليا)، أو طغيان المركز على واقع الدولة (بريطانيا والولايات المتحدة)، أو أخيراً انتفاء المركز ومفهوم الدولة الكاملة على غرار سويسرا. ينتمي لبنان إلى الفئة الأخيرة حكماً، مع كامل إفرازاتها وميزان نصابها ومعيار تماسكها. وعليه، يفرض المعطى إشكالية لا مناص من الاعتراف بها ودراية أعراضها ونقاط الضعف النابعة من أحشاء الصِّيغَة التي تجسّدها. هنا يحضر تعريف أوتو باور أنّ «الأمة» الحاضنة مجرّد قطعة جامدة من التاريخ يقتضي تحريرها من طوق الضِّيق وإسكانها في رحاب الحركة والتطوّر. ولقد نـَوَّهَ نوربرت الياس في كتابه «حول عملية الحضارة» أنّ تاريخ المجتمعات البشرية «وليد مشاريع متعدّدة، لكنّه يفتقد المشروع، تحف به غايات متعدّدة، ويبقى دون غاية محدّدة». واستطراداً، ينفتح التاريخ السياسي الجديد على الذهنيات السياسية عبر دراسة الخطاب والمفردات والطقوس والسلوكيات والعقليات، كما نادى به باحث ومؤرّخ القرون الوسطى جاك لوغوف.
تجوب القراءة المعاصرة في السياسة حقولاً مجتمعية خصَّبَـها التاريـخ وآلَ بها إلى الكيانية السياسية، وما الحكمة إلّا تجوال، ذهاباً وإياباً بين ربوعها، ومعاينة لصيرورتها وتفاعلاتها، لاستخراج الملائم الجامع والمفيد. فلا مسلّمات أو أحكام مسبقة تشفي من مزالق الأزمات، ولا من وصفات جاهزة تغني عن الإرادة الواعية في ضوء المتغيّرات. إلا أن للدولة، كل دولة، على سبيل الحصرية والتخصيص، احتكار العنف الشرعي (أي قوّة السلاح بموجب القانون وامتياز القضاء وإنزال الأحكام) والإيرادات، على مثال التكليف الضريبي والرسوم وإصدار العملات والريوع والأملاك العمومية، مقابل الإيفاء بحاجات الجهاز الإداري والعسكري وإنفاق العائدات.
تنساب هذه المقدّمات بعيداً عن الأدلجة المنظِّرة، على خطى مقولة استخلصها ماكس فيبير، ورجع إليها دارسو الدولة مذ ذاك باعتبارها تختزل وظائف الدولة الأساسية وتجعلها تعلو سائر مكونات المجتمع وتشكيلاته. فليس من اشتراك مع الدولة في رفعة مكانتها، وإمساكها بعصبي السيادة والقرار المحفوظين لها على وجه أحادي، على أساس التفويض الشعبي المعطى لهرم السلطات رضاءً، والغطاء الذي تؤمّنه المؤسّسات الدستورية للأجهزة العاملة نظامياً تحت إشرافها ورقابتها. وفي ذلك استقامة وحسن تدبير مجتمعي قوامه إيلاء المسؤولية طوعاً بالتكليف، ونزع الثقة عن حامليها عند الاقتضاء والاستحقاق عملاً بتداول السلطة والانصياع للإرادة الشعبية صاحبة الأمر في انتقالها سلمياً والحفاظ على استمرارية المؤسّسات والعهدة في نطاق العقد الاجتماعي / السياسي المُبْرَم.
تولي الرؤية الرئاسية مسألة الوطنية حيّز اهتمامها بلا تنميق أو تزيين خطابي واعظ، ولا تجد تناقضاً بين الالتزام الوطني والانتماء القومي. بل إنّها تتجاوز، ضمناً في السياق وصراحة في بعض المندرجات، الطرح الخلافي الجامد، تماماً كما تجسِّر بين الوطن والأمّة في مقاربة تصالحية ووحدة مصالح وأهداف لا تنفي الخصائص، ولا تخلو من احتياجات ودعوة لاحترام الكيانات. هنا أيضاً، لربما استُقي من مدرسة «مثالية» في منطلقاتها الوجدانية المغايرة للحتمية السببية والتوليف النمطي، واقعية في تعويلها على العامل الذاتي والعلاقة بين الذات والآخر، لكون الوطن/ الأمة، من خلال عدستها كائناً بالصورة الانطباعية، مرهوناً برسوخها، ومديناً لتظهيرها.
في هذا الصدد، نعود مجدّداً إلى ماكس فيبير الذي خلص إلى أنّ «التشابه الموضوعي لا يؤسّس للرابطة الوطنية، بل الأصل في تلمّس العاملين (الاجتماعيّين) للحدود بين النظير والآخر. فالوطنية، بهذا المعنى، ظاهرة «إيمان» ومعتقد، وامتلاك استعدادات مشابهة مورِّثة لا يؤدّي إلى الجماعة إلا إذا استشعَرَ بها ميزةً مشتركة.
وفيما يعود للحال اللبنانية، تترجم هذه الأطروحات في مكاشفة صريحة تشرح الواقع البُنيوي وتتفهّم أنّ المنظومات الفكرية والعقدية، بمحمولاتها الواعية والمؤسطرة ضميريّاً، تترك بصماتها على البيئات وما تفرزه من نهج سياسي وأداء، فيما تسجّل صعوبة في الانصهار الوطني، وانشطار في المرجعية وتعدّد الولاءات. الحاصل دولة ضعيفة المفاصل وهياكل اجتماعية متباينة وجوامع أكيدة تؤهّل لعيش مشترك، لكنّها تبقى قاصرة عن حياكة نسيج موحّد وصوغ رؤى مستقبلية شافية. هكذا ينبغي تفعيل التوافق الوطني بالإفادة من البذور المزروعة خلال المسار وما راكمه التاريخ من دفاع عن الملاذ القائم أرضاً وحدوداً في الجغرافيا، والماثل صيغة وفرادة في المحيط وميراث أجداد في المخيلة الجمعية، على اختلاف الدوافع والخلفيات.
يمتلك لبنان خامات ومواد كفيلة بضمان وحدته الكيانية وسيادته، يدعمها اتفاق تاريخي انبثق من الطائف نصَّ على نهائية وطن لكلّ أبنائه. غير أنّ الوطن الصغير الذي عانى طويلاً الاستتباع ومصادرة القرار، له من ذاكرة القهر حافظة، ومن عواصف المنطقة وأنوائها أقساط. فهو، بحكم الموقع والتواصل القومي والإقليمي، عرضة لمؤثّرات تفد إليه من وراء حدوده، تخلّ بتوازناته وتُضعف مناعة دولته الفتية. ويشهد له نظامه الديموقراطي بأنّه كان سبَّاقاً في الحقل الحقوقي وإشاعة الحريات، مستوفياً، إلى حدّ معتَبر حيناً ومقبول أحياناً، علاماتها وسماتها الجوهرية، عاملاً على بلورة مفهوم المواطنة وسط مناخات غير مؤاتية تقف على معاملة الرعيّة وتذويب الفرد ضمن الجماعة.
في الداخل، ناهضت العصبيّات والطائفية المسعى الجمهوري، وعاقت تحرير الفرد وتمتّعه بالشخصية المعنوية الكاملة. إنّ المطلوب قراءةٌ من طينة تستوعب حجم المعوِّقات وتثابر على قناعة بقدرة الديموقراطية اللبنانية على تذليل الصعوبات، شرط تنقيتها من الرواسب والشوائب والأحقاد، وتوسيع حقلها الاجتماعي واستخدام رافعتهما بنزاهة وتدرّج ووتائر غير متسرّعة.
عايَنَ ت. هـ. مارشال، السياق التاريخي لاكتساب الفرد صفة المواطن وتطوّر مكانته. لاحظ أنّ القرن الثامن عشر وفَّر العنصر المدني (حرية الفرد والقول والفكر والمعتقد والملكية والتعاقد والتمتّع بحقّ عدالة متساوية)، ملخّصه دولة القانون. ثمّ أضاف القرن التاسع عشر العنصر السياسي إلى جعبة المكتسبات عبر الإقرار بمبدأ الانتخاب الشعبي العام والاقتراع الفردي وأهلية الترشّح، بينما أتى القرن العشرون برزمة الحقوق الاجتماعية من خلال دولة الرعاية والرفاه الاقتصادي وشبكة الأمان الاجتماعية. يبرز المشهد اللبناني ترتيباً مماثلاً جامعاً من موقع المعاصرة، مؤيّداً بالتسلسل، ومبيّناً مكامن الفجوات والنواقص وتفاوت المنجز المحقَّق منها تباعاً.
فعلى صعيد العنصر المدني، يُلام السائد لبنانياً على غلبة الشكل على المحتوى والالتفاف على المضامين والتلكّؤ في إرساء عدالة متكافئة، ما يستدعي تصحيحاً ممكناً غير بعيد المنال. بينما يعتور الشأن السياسي ضعف التشكيلات والأسوار الطائفية والمذهبية واستخدام النفوذ والمال لمصادرة الإرادة الشعبية وتشويه المحتوى الديموقراطي للعمليات الانتخابية، ما يتطلّب تحديثاً شاملاً يطيح القوالب الجامدة ويعد باحترام القواعد العامة والمؤسّسات ومصالحة السياسة مع مفهومها النبيل، خدمة لا امتيازاً. ضفْ أنّ مفاعيل الاقتراع لناحية إسقاطه للعنف عطفاً على انتفاء سببه والقبول بالنتائج تبعاً للتسليم المسبق بالمشروعية الخارجة من الصناديق، قلّما تأتلف مع ردود الأفعال المشاغبة والطعون الفاقدة المسوّغ القانوني، المعمول بها مبالغة في لبنان.
بادر العقلاء باكراً إلى معارضة السياسات المالية للحكومات المتعاقبة بعد الطائف على معنى الشفافية في التعاطي ونقد الإنفاق غير المجدي وبيان مخاطر المديونية العامّة وإيقاف الهدر والزبائنية ومظاهر الفخامة المكلفة جميعها على المدى الطويل. تأسّس ذلك على الدوام، عملاً بقاعدة الرقابة والمحاسبة، ونفوراً من نزعة متأصّلة جانبت التفريق بين العام والخاص، وقاربت الإنماء المتوازن بقدر من الإهمال والفكر التنموي المغالط الخاضع للمحسوبية والنفعية. حسب النقد الموضوعي عدم الانسياق إلى عداوة مُمَنهجة تفرِّط بالمسؤولية وتنفي الإيجابيات المحقّقة كيديّاً، أو الإصابة بذلك الحوَل المعْرفي العدمي الرامي إلى إغداق الوعود شعارياً والقفز شعبويّاً فوق القدرات والمعطيات. لذا، تحاذر الواقعية الاقتصادية إغفال مستلزمات دولة الرعاية المنشودة، وترتاب من الشطط في تصوّر بلوغها واستدامتها دونما التعرّض للبِنى الاقتصادية المتقادمة ومضاعفة الجهود لتحديث القاعدة الإنتاجية والخدماتية والانخراط في اقتصاد المعرفة.
لا يُعاب على لبنان ليبرالية متفلّتة مستوردة خالية من الضوابط في ظروف بلد ناشئ قليل الموارد المادية غنيّ بالكفاءات البشرية، حيث إنّ مفكرته الاقتصادية تلحظ دوراً ناظماً ومُحفِّزاً للقطاع العام، يُؤازر قطاعاً خاصّاً يقوم على المبادرة الفردية ويشكّل، بالضرورة، عصب الاقتصاد وقاطرته. لذلك، يبدو الجاري أقرب إلى العناية الاجتماعية التوفيقية الخجولة منه إلى أدلجة اقتصاد السوق، يقتدي بالروية في المعالجة في ظلّ عولمة زاحفة، لا حول في مخاصمتها عفويّاً، ولا نفع في تقليد غلاتها والاندفاع في انفتاح مطلَق يتجاهل الأمن الاجتماعي ويُغيظ مكوّنات عضوية صانعة للسياسات، إلى أثقال اللوحة الاجتماعية بما لا طاقة لها على حمله واحتماله.
بناءً عليه، تُوجِّه الأزمة الرئاسية رسالة صريحة تشي بأنّ الحوار الاجتماعي ملازم للحوار السياسي وضمان لنجاحه، وهو المرشد ومحكّ السلم الأهلي في المحصّلة، لغته رقمية «حياديّة» لا تقبل التأويل أو الاجتهاد، وسنده البحث عن أصل العلّة والأزمات في دائرة العوز وعدم تعميم الرفاه والتفاوت الاجتماعي البائِن. ولا بأس من إدراك أنّ للدول الصغيرة منطقاً وغلافاً اقتصادياً متواضعاً تفرضه الأحجام، قلّما يُؤهّل لكفاية أو يسمح بانغلاق وحردٍ وتقوقع في اقتصادٍ «قوميّ».
يصعب الادّعاء أن رؤية كهذه تلهب المشاعر وتبشِّر بالمعجزات. وربّ هذه الضارّة الشكليّة نافعة في خروجها عن مألوف البيانات، تشير بلا استثارة، وتعني ما تقول. ومهما كانت حظوظها من القبول، فالمؤكّد أنّها مرافعةٌ وشهادةٌ على تمثيل نمط حدثي في ممارسة السياسة قد لا يستنهض التأييد الجماهيري، لكن يحرج خصومه ويدفعهم إلى مزيد توضيح وجواب. وفي مطلق الحال، يبقى على الطبقة السياسية، أن تتفكّر بالمحمول والمنطوق، وتبادله الحجّة والمقترحات. فما من طرحٍ بمعصوم، ولا هي بريئة من دم لبنان وأوجاعه.
هذه سياسة تعوزها الخطابة والرطانة، تَرى الصعاب وتُدرك تبعات تجاوز الخطوط الحمراء. تستأهل لبنان أنداداً ومعارضين لها من قماشة راقية ليستوي النقاش ويستقيم الحوار. أمّا تأييدها، فتلك مسألة أخرى من ناتج موازين القوى وطبيعة المعادلة / التسوية المقبلة أو المدبّرة. من يدري كيف تتجّه الرياح؟
* كاتب لبناني