وهيب معلوف*
فكرة أميركا في كونها مثالاً بالنسبة إلى باقي العام تذهب بعيداً في الماضي. في عام 1630 رأى الطهراني جون وينثروب أن مستوطنات المهاجرين الأوروبيّين الأوائل في «نيو إنغلاند» هي بمثابة «مدينة على جبل»، فيما «عيون جميع العالم علينا». الفكرة ذاتها سوف تتكرّر عبر مسار تاريخي، ولو بدرجات متفاوتة: نجد تعبيراً لها، مثلاً، في اعتقاد توماس جيفرسون بأنّ النظام الأميركي سوف ينتشر في كلّ مكان لأنّه يمثّل تجسيداً للعقلانية الكونية.
بينجامين فرانكلين بدوره رأى أنّ قضية أميركا هي «قضية البشرية جمعاء». أمّا ودرو ويلسون فقد اعتقد أيضاً بأن «المبادئ الأميركية»، و«السياسات الأميركية هي أيضاً مبادئ وسياسات التقدميّين في كلّ مكان، رجالاً ونساءً، كلّ أمّة حديثة، وكلّ جماعة متنورة. إنّها مبادئ البشرية، ويجب أن تسود».
ومن ثمّ، وصولاً إلى النصف الثاني من القرن العشرين، تمّ إحياء عبارة «مدينة على جبل» من جديد، لكن هذه المرّة بنبرة أكثر غروراً ممّا هو موجود في نسخة وينثروب. كان رونالد ريغان فخوراً بالعبارة، هو الذي وصف أميركا يوماً بأنها «آخر وأفضل أمل للإنسان على الأرض». خطاب كهذا لم يكن حكراً على الجمهوريين، لكنّه كان يرد بسهولة أكبر على ألسنة الأخيرين، وخصوصاً «المحافظين الجدد». خير مثال على ذلك قول كوندوليزا رايس بأنّ الولايات المتحدة هي «على الجهة الصائبة للتاريخ» وادّعائها أن «القيم الأميركية هي كونية». وفي بداية القرن الواحد والعشرين، عاد الدين بقوة إلى الواجهة، وبدأ يُنظر إلى أميركا على أنها أمة الله المختارة، على غرار إسرائيل في العصور القديمة. دمج الرئيس بوش الفكرتين السابقتين في عام 2000 عندما أعلن أنّ الولايات المتحدة قد تمّ «اختيارها من الله وتفويضها من التاريخ لتكون نموذجاً للعالم».
كلّ هذا يحمل أوجه شبه مع الفكر الليبرالي البريطاني في القرن التاسع عشر. البريطانيون أيضاً أرادوا الاعتقاد بأنّهم يسيرون في قاطرة «التقدّم»، مفضّلين استخدام تشبيه «الطريق» عوضاً عن «المدينة»: بريطانيا قد قطعت مسافة كبيرة على طريق «الحرية» التي سوف تسلكها جميع الشعوب في نهاية المطاف. لكن في كلتا الحالتين كان الاستنتاج واضحاً بأنّه لا حاجة لفرض هذه الأفكار على الشعوب الأخرى. كل ما هو مطلوب هو المثال؛ العقلانية الإنسانية تتكفّل بالباقي. كما أنّ هناك وجه شبه آخر. كلتا العقيدتين أقامتا وزناً كبيراً لـ«التجارة الحرّة»، ليس بما هي مبدأ ينتج ويعمّم الازدهار المادّي فحسب، بل أيضاً في كونها محفّزاً لتحقيق أهداف أخرى ذات صلة بالمنفعة العامة. كان لدى ليبراليّي القرن التاسع البريطانيّين اعتقاد شبه حتمي بأنّ انتشار التجارة الحرّة سوف يتبعه انتشار لـ«حريات أخرى». وقد حذا حذوهم لاحقاً المحافظون الجدد الأميركيون. في مقال لها في بداية عام 2000، كتبت رايس عن إيمانها بـ«قوّة الأسواق والحرية الاقتصادية في قيادة التغيير السياسي»، وهو إيمان، بحسبها، «قد ثبتته تجارب حول الكرة الأرضية». غير أن «الديموقراطية» لم تكن أولوية بالنسبة إلى ليبراليي القرن التاسع البريطانيين. لم يعتقد الأخيرون بوجود صلة ضرورية بين الديموقراطية وأنواع أخرى من الليبرالية السياسية؛ من الممكن مثلاً، وجود أنظمة قمعية منتخبة ديموقراطياً وأخرى أوتوقراطية غير منتخبة، لكنها أكثر حساسية تجاه معظم الحريات الإنسانية من الأولى. كما أنّ الليبراليين المذكورين أبدوا في منتصف القرن التاسع عشر توجّسهم من ديموقراطيات يخطفها العامّة (على غرار ما حصل خلال الثورة الفرنسية) أو مجموعات من الأثرياء والنافذين.
إنّ مجرّد ذكر هذه الخصائص مفيد لتبيان أوجه الاختلاف بين دعاة تحرير الأسواق من المحافظين الجدد الأميركيين وأسلافهم البريطانيين. لم يكن الأوّلين من دعاة المساواة أو السلام أو من المناوئين للنزعة الوطنية. فحقيقة الأمر أنّ واحداً من أكثر التطورات إثارة للاهتمام في تاريخ الفكر السياسي الأنغلو ـــــ أميركي خلال القرن العشرين كان ذلك الذي أوصل إلى الفصل بين نوعين من الليبرالية بحيث إنّ مفاهيم الحرية التي كانت في ما مضى مرتبطاً بعضها ببعض وجدت نفسها على طرفي نقيض من النقاش السياسي. في بريطانيا، أفضى ذلك إلى نظرية مارغريت تاتشر عن «اقتصاد حرّ في دولة قوية». أمّا في أميركا الحديثة فيتجسّد ذلك في المهانة المرافقة لكلمة «ليبرالي» في الأوساط اليمينية المعتنقة مبادئ السوق الحرة. على غرار تاتشر، حرص المحافظون الجدد على إظهار القوة، فأوجدوا نظاماً جزائياً تأديبياً، جيشاً كبيراً، وحسّاً قوياً بـ«الروح الوطنية». كما أنّهم لم يتردّدوا في محاولة نشر فكرة «التجارة الحرة» بواسطة القوة، الأمر الذي شكّل الاختلاف الأساسي بينهم وبين ليبراليي القرن التاسع عشر البريطانيين، على الأقلّ نظرياً. فقد اعتقد الأخيرون أنّه في نهاية المطاف، لا حاجة لاستعمال القوّة، إذ إنّ روح التنوير سوف تنتشر «طبيعياً».
غير أنّ انعطافاً بدا ضرورياً بعد حصول أحداث 11 أيلول ووصول المحافظين الجدد إلى السلطة في عام 2001. فأحداث 11 أيلول كان لها الأثر في دفع خطوط الدفاع الأميركية إلى الأمام بحيث أصبحت حماية الوطن من الأخطار المحدقة به تتطلّب أعمالاً «استباقية» في الخارج. لذلك أعلن الرئيس بوش في خطاب له في عام 2005 أنّ «بقاء الحرية في بلادنا يعتمد بشكل متزايد على نجاح الحرية في البلاد الأخرى».
وقد كان هذا هو الموقف الذي اتخذه المحافظون الجدد في بداية التسعينيات عندما أصرّوا صراحة على الحاجة لسيطرة أميركية على العالم كطريقة وحيدة لتحقيق «الحرية» العالمية، وبالتالي الأمن للولايات المتحدة. وهو موقف قام على الفكرة الجديدة القائلة بأن «الديموقراطيات» ـــــ من حيث طبيعتها ـــــ لا يمكن أن تتحارب مع بعضها، ما يعني أنّ عالماً حرّاً يعني أيضاً عالماً يعمّ فيه السلام.
المنطق ذاته تقريباً ينسحب على عامل إيديولوجي أدى دوراً مهماً ومؤثّراً في أميركا في فترة ما بعد 11 ايلول، ألا وهو الدين بنوعه المسيحي الإنجيلي على وجه التحديد. وفي هذا السياق، يعزو عالم اللاهوت مايكل نورثكوت «رسولية» الرئيس بوش العالمية إلى إيمانه بفكرة أن أميركا هي العاصفة التي يسيّرها الله والتي تهدّد عبر قوّتها العسكرية كلّ أولئك الذين قد يقاومون نفوذها: «أعداء الحرية».
أيضاً، قد لا يبدو «النموذج» الأميركي ـــــ كما يُنظر إليه من الخارج ـــــ الأفضل الذي يحتذى به. فلعلّ الجانب العنفي التوسّعي لهذا النموذج كان المظهر الأكثر وروداً وتداولاً لدى المراقبين في الخارج؛ مظهر آخر كان الغيتوات الفقيرة للأميركيين السود التي انكشفت أمام العالم عقب إعصار كاترينا الذي ضرب مدينة نيو أورلينز في أيلول 2005.
يكثر الحديث منذ فترة في الولايات المتحدة عن «الداء الأميركي» للدلالة على علامات انحدار الإمبراطورية الأميركية وعثراتها المميتة. وثمّة حركة اعتراضية في الداخل الأميركي متنوّعة وفعالة تطرح رؤية نقدية واضحة لسياسات الرئيس بوش الداخلية والخارجية على حدّ سواء، وتضمّ عدداً كبير من المسؤولين والدبلوماسيين والأساتذة الجامعيين والصحافيين والفنانين الأميركيين، بدءاً من نائب الرئيس الأسبق آل غور، مروراً بالمخرج السينمائي مايكل مور، وصولاً إلى المؤرخ روبرت تاكر الذي رأى أن سياسة بوش «الحربية في مبدئها، وحكمها وذهنيتها وفي مجمل سلوكها» قد أكسبت الولايات المتحدة «العديد من ملامح ما تسمّيه هي نفسها الدول المارقة». تنطلق حركة الاعتراض المذكورة في نظرتها من الإيمان بالتراث العريق للديموقراطية الأميركية وقدرتها على تصحيح الأخطاء وتجاوز العثرات. ونجاح هذه الحركة، برأي الكثيرين، قد يكون خطوة أولى على طريق شفاء أميركا من مرضها.
* باحث لبناني