فايز فارس
لم يكن في مستطاع الطبقة السياسيّة الحاكمة في لبنان «الاستقلال الأوّل»، الاستغناء عن مؤسّسة الجيش بل قَبِلتْ بوجوده ضمن حدود ضيقة وإطار محدّد، ولم تتركه يؤدّي دوره «الإنقاذي» سوى في الحالات التي كانت فيها مصالحها في خطر، أي عندما كانت هذه الطبقة الحاكمة تجد نفسها مضطرّة إلى الإعلان عن عجزها الفعلي في تأمين الحدّ الأدنى من الاستقرار الاجتماعي السياسي والتوافق على «اقتسام الجبنة». كما أنّ القول بأن مؤسّسة الجيش قد قامت إلى حدّ بعيد من أجل حماية النظام وأهله قبل أي أمر آخر، هو قول أثبتته كلّ الأحداث المؤلمة التي عصفت بالبلد منذ تأسيس الكيان/ الوطن اللبناني إلى يومنا هذا. وتاريخ هذه المؤسّسة الوطنية حافل بالنجاح حيناً وبالإخفاقات أحياناً. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ مطلع الخمسينات، يوم وقفت مؤسّسة الجيش على «الحياد الإيجابي» أمام محاولات التجديد للرئيس بشارة الخوري لتبدو بعد ذلك بست سنوات في وضع المنقذ عندما اختلطت الأمور والأوضاع بين محاولات الرئيس كميل شمعون المستميتة سعياً وراء إعادة انتخابه أو التمديد له ومحاولات «الضمّ والفرز» المصرية ـــــ السورية التي كانت تتربّص بالكيان/ الوطن وأهله.
ـ مطلع الستينات، حيث غرقت مؤسّسة الجيش في وحول الممارسات القمعية ترهيباً وترويعاً وتعذيباً، ذهب ضحيّتها آلاف المواطنين اللبنانيين الأبرياء غداة الإعلان عن فشل ذلك الانقلاب الذي أراده «القوميون» أن يكون «أبيض»، أي من دون إطلاق رصاصة واحدة أو حتى توجيه إهانة إلى أحدٍ. ودامت تلك الممارسات عقداً بكامله حيث توفّي المئات من المواطنين اللبنانيّين في السجون وأقبية التعذيب، وتعرّضت آلاف العائلات لضغوط نفسيّة وماديّة جعلت بعضها يغادر نهائياً أرض الوطن.
ـ مطلع السبعينات حيث أظهرت المؤسّسة العسكرية عجزاً فاضحاً في تأدية دورها الوطني في منع تردّي الوضع الأمني الذي شهده لبنان منذ توقيع قائد الجيش العماد إميل بستاني باسم الحكومة اللبنانية اتفاق القاهرة المشؤوم آنذاك... وحتى وقوع الحرب الأهليّة التي دامت عقداً ونيفاً، حيث لم يكن باستطاعة هذه المؤسّسة الوطنية حسم الأمور وتأدية الدور الإنقاذي المطلوب منها، بسبب ارتباطها الوثيق بأطراف الطبقة السياسيّة المتنازعة وولائها لزعامات طائفيّّة وحكومات فاسدة عاجزة، عملت طيلة سنوات الحرب على «إدارة الأزمة» التي تبيّن أنها كانت أكبر وأعظم من طاقات وقدرات بعض الأوفياء على الحركة وتحقيق إنجازات فعليّة.
ـ مطلع التسعينات ومع انطلاقة الجمهورية الثانية أي «جمهورية الطائف»، حزم المسؤولون عن أمن واستقرار لبنان، أمرهم وقرّروا «مبدئياً» أن يكون لهذه الجمهورية مؤسّسة عسكرية تحمي نظامها وشعبها أولاً وحكّامها ثانياً. لكن قرارهم هذا جاء ملتوياً وناقصاً إذا أردنا النظر في النتائج والتداعيات. لذا رأينا قيادة الجيش تعوّض عن هذا النقص باعتمادها على العنصر البشري من رأس الهرم إلى أخمصيه في مواجهاتها للحالات الخاصة والتي برزت خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان والتظاهرات الوطنية الضخمة من جهة، وفي تصدّيها لمجموعة ما سمّي «فتح الإسلام» من جهة أخرى... حيث تبيّن للمراقب والمتتبع أن مؤسّسة الجيش بضباطها وعسكرها بقيت أقرب إلى هذا الشعب المقهور منه إلى حكّام البلد فنجحت في حمايته مثلما حمت تلك الحفنة من المسؤولين الذين أثبتوا بطريقة أو بأخرى، عن معرفة أو غير معرفة، أن الشعب هو في أسفل أولوياتهم واهتماماتهم.
لذلك، نرى البعض سعداء لرؤيتهم العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بسبب تمتّعه بتلك القدرة العقليّة التي يحتاجها المسؤول، أي مسؤول، في عملية تقدير الموقف واتخاذ القرار المناسب وتنفيذه على أفضل ما يمكن فعله، والتي مكّنته خلال هذه السنوات القليلة الماضية أي منذ خروج «قوات حفظ الأمن والاستقرار في لبنان»... من تحقيق كلّ هذه الإنجازات، وبالتالي الفوز برضى البعض وإعجاب البعض الآخر. فهل ينجح العماد ميشال سليمان حيث أخفق من سبقه إلى الجلوس على كرسي «صاحب الفخامة»؟ وهل سيتمكّن من استرداد كل الاعتبارات والقيم التي فقدها هذا الموقع، بسبب جشع وتعنّت وحب السلطة لدى غالبية حكّام وقادة هذا البلد المنكوب؟ وهل سيعترف هؤلاء القادة والحكّام ويقرّون بأنهم أخطأوا بشكل مقيت ومميت بحق هذا الوطن الجريح وهذا الشعب المقهور وهذه الدولة المشلّعة؟