strong>ورد كاسوحة *
يجدر بالمراقبين للشأن الفنزويلي التوقّف طويلاً عند المآل الذي أفضت إليه نتائج الاستفتاء الشعبي الأخير حول سلّة الإصلاحات الدستورية والاقتصادية التي طرحها الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، وأراد منها أن تكون ـــــ في حال نجاح الاستفتاء ـــــ بمثابة «خريطة طريق» حقيقيّة للولوج إلى مشروعه المعلَن بشأن فنزويلا المستقبل، موئل «اشتراكية القرن الحادي والعشرين»، ورائدة الممانعة اللاتينيّة للإمبراطوريّة الكولونياليّة الأميركيّة.
ويمكن في سياق التعليق على نتائج الاستفتاء المذكور، رصد وتسجيل مجموعة من الملاحظات، التي من شأنها تعيين معالم الحقبة «التشافيزيّة» في فنزويلا، وما إذا كانت هذه الحقبة قد اتسمت بالرعونة والنهج الشعبوي كما يروّج ويسوّق لذلك أعداء تشافيز وخصومه في الداخل والخارج، أم بالواقعية السياسية والراديكالية الهادئة، كما تبدّى من ظهوره أخيراً (أي تشافيز) على شاشات التلفزة، معلناً تمسّكه بمشروعه «التثويري» الاشتراكي، ومقرّاً في الآن نفسه بخسارته وفوز خصومه في المعارضة.
أوّلاً، يسجَّل لهذا الاستفتاء أنّه سحب من أطياف المعارضة الفنزويليّة، المدعومة بمعظمها من واشنطن، ذريعة أساسية، تتّصل بحملة الترهيب والتخويف التي انتهجتها هذه المعارضة طيلة الفترة التي سبقت الاستفتاء ومفادها: تحذير الشعب الفنزويلي من مغبّة الانسياق وراء سياسات الرئيس «الشمولية» و «الإقصائية»، والتي تحاكي على نحو ما النموذج الكوبي، وخصوصاً في ظلّ العلاقة الاستثنائيّة التي تربط ما بين الزعيمين الكوبي فيدل كاسترو والفنزويلي هوغو تشافيز.
وهذا ما دحضته نتائج الاستفتاء الشعبي، التي أظهرت على نحو بيّن، مدى متانة التجربة الديموقراطية في فنزويلا، واستطراداً عمق النضج الدولتي والمؤسّساتي الذي آلت إليه تجربة تشافيز في مؤسّسة الرئاسة، وذلك بعد محاولات بائسة كثيرة له في الاقتداء بالنموذج العسكريتاري والعالمثالثي الرديء والمشوّه، والعاجز عن إنتاج سلطة حقيقيّة تمثّل طموحات الشعب، وأهم هذه المحاولات الانقلاب الفاشل الذي قاده في عام 1992، وأُودع على أثره السجن، قبل أن يفرج عنه لاحقاً بعفو رئاسي، ويعود مجدّداً إلى الحلبة السياسية، ولكن هذه المرّة من المنفذ السلمي الديموقراطي والبرلماني، الكفيل وحده بتحقيق حلمه الرئاسي،
وبالتالي إكسابه مشروعية الولوج والنفاذ إلى أجندته الحقيقية ببناء اشتراكية القرن الحادي والعشرين، وهو الأمر الذي عمل جاهداً على تحقيقه منذ وصوله إلى سدة الرئاسة في عام 1999.
فظهور تشافيز منذ أيام بمظهر الرئيس الهادئ والعقلاني، المعترف والمقرّ بهزيمته، كان من شأنه سحب البساط من تحت أقدام المعارضة، وبلورة صورة حقيقية ومختلفة للرئيس الذي عُرف بمزاجه الحادّ ونزوعه الدائم إلى الصدام والمواجهة الاستعراضية، ونعت كلّ من يختلف معه بالرأي، سواء كان من الموالاة أو من المعارضة بالتحريض على الفوضى وخدمة المصالح الأميركية، وإن بشكل غير مباشر. وقد كانت التخريجة التي اقترحها تشافيز لتوصيف هزيمته في الاستفتاء الأخير لافتة جداً، من حيث دلالاتها البعيدة، الموحية دون شكّ بعقلانية مفرطة وببراغماتية سياسية محسوبة وغير مبتذلة، وقد اختار لها كما هي عادته دائماً طابعاً قيمياً، حين أشار إلى أنّ اعترافه بالهزيمة ليس هزيمة، بل هو فوز أخلاقي لاشتراكيّته الطوباويّة الموعودة.
ثانياً، لم يكن مقدَّراً لسلّة الإصلاحات التي اقترحها تشافيز أن تجد طريقها بسهولة، وبالتالي أن تنال الإجماع المطلوب لإمرارها، في ظلّ مجتمع حيوي وتعدّدي ومنقسم سياسياً مثل المجتمع الفنزويلي. والانقسام هنا ليس انقساماً تقليدياً من قبيل ثنائيات شائعة مثل: معارضة وموالاة، أو يمين ويسار، بل هو انقسام ينحو إلى «التطيّف» والتعدّدية داخل الصفّ الواحد، وأبرز مثال على ذلك، التناقضات التي ظهرت إلى السطح أخيراً داخل التحالف الحاكم، بين أنصار تشافيز أنفسهم، حيث حصل انشقاق واضح بين من يؤيّد سلّة الإصلاحات الدستورية الأخيرة ويمضي في خياراته «التشافيزية» حتى النهاية، وبين من يتحفّظ على هذه الإصلاحات، ويرى فيها تجاوزاً للصيغة «الاشتراكية» المعتدلة التي أرساها تشافيز منذ وصوله إلى الحكم.
وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على تجذير النهج الديموقراطي السلمي داخل تيّارات وأحزاب اليسار الجديد في أميركا اللاتينية، في ما يشبه انقلاباً راديكالياً على نظريات «التثوير» البيروقراطي والعسكري، التي انتهجتها الثورة الاشتراكية الأم في كوبا، الأمر الذي أسهم في إعطاء المزيد من الذرائع لسياسات التدخّل الأميركي والغربي عموماً في شؤون هذه الجزيرة تحت شعارات برّاقة و«خلبية» من قبيل: إسقاط الديكتاتورية العسكرية، إطلاق الحريات الديموقراطية، إعادة المنفيّين الكوبيّين في ميامي وغيرها من المنافي الأميركية، إطلاق سراح معتقلي الرأي... وسوى ذلك من ذرائع وأمور فاقمت عملياً من وضعية الحصار لمضروب حول كوبا منذ قيام الثورة في عام 1959، وزادت من عزلة نظام كاسترو، الذي يمكن الزعم من دون كثير عناء أنه اختار أسوأ الطرق لبناء «جنّته» الاشتراكية، وما يزال ماضياً في خياره هذا، من دون أن يقيم كثير وزن لا هو ولا خليفته راوول إلى التجارب المماثلة سيّئة الذكر في الاتحاد السوفياتي السابق ومنظومة الدول الاشتراكية وكوريا الشمالية والعراق...، وذلك بخلاف ما فعله «ورثته» المفترضون في فنزويلا والبرازيل وبوليفيا والإكوادور وتشيلي. فهؤلاء قرنوا طموحاتهم الاشتراكية المعتدلة والراديكالية على حدّ سواء بسياسات واقعية وعقلانية، زاوجت على نحو لافت ما بين العدالة الاجتماعية والديموقراطية البرلمانية وإعادة توزيع الثروة.
ثالثاً، لا يستقيم توصيفنا لانتصار المعارضة الفنزويلية في الاستفتاء الأخير دون التوقّف قليلاً عند الطبيعة المركّبة والمعقّدة لهذه المعارضة. وخير دليل على تهجينها وتعقيدها هذا ركونها إلى طيف واسع من القوى اليمينية واليسارية، المتضرّرة بمعظمها من طموحات تشافيز غير المحدودة، فضلاً عن حلمه المؤجَّل والمستحيل ربّما ببناء نموذج «دولتي» يضمّ إلى المكوّن الاشتراكي ذاك «البوليفاري» النازع بطبيعته إلى التوحيد وجمع المكوّنات اللاتينية المختلفة في توليفة واحدة، شبيهة بتلك التي اجترحها محرّر أميركا اللاتينية وقدوة تشافيز في كلّ ما يذهب إليه، أي سيمون بوليفار.
والحال أنّ ما يجمع بين اليمين الليبرالي المرتاب من إصلاحات تشافيز الاقتصادية غير المحدودة، واليسار «التشافيزي» السابق المتحفّظ على تعديل الدستور جذرياً وتوسيع صلاحيّات الرئاسة أقلّ من أن يُعتدّ به، وبالتالي هو كناية عن التقاء عرضي، فرضته المصالح المختلفة والمتضاربة لكلا التيارين، معطوفاً عليهما تيّار الشبيبة وطلاب الجامعات الذي انضمّ حديثاً إلى الحركة الاحتجاجية، لكن ليس من باب معارضة سلّة الإصلاحات، بل احتجاجاً على سلوك تشافيز تجاه بعض الإعلام المعارض و«المستقلّ» الذي يتوجّه بمعظمه إلى هذه الفئة العمريّة.
وقد تمثل هذا السلوك في إقدام تشافيز على إغلاق محطة أر أس تي في التلفزيونية، بحجّة أنها تؤلّب الفنزويليّين وخصوصاً الشباب منهم على النظام وتدعو إلى قلبه وإسقاطه.
صحيح أنّ الهشاشة الملحوظة التي ينطوي عليها هذا «التحالف» حالت دون التقاء مكوناته على أجندة محدّدة، أو على خطّة عمل للمرحلة المقبلة، لكنّ الصحيح أيضاً أنّه رغم هشاشته وضعف مكوّناته استطاع تحقيق سابقة في تاريخ المعارضة الفنزويلية لحكم هوغو تشافيز، وذلك عندما تمكّن ولأوّل مرة من هزيمة رجل فنزويلا القوي في استفتاء عام، يزعم بعض المحلّلين أنه لم يكن استفتاء على إصلاحات دستورية واقتصادية بقدر ما كان استفتاء على شخص تشافيز ونهجه الرئاسي، ولأن كان فوزاً ضئيلاً وبفارق طفيف لم يتعدّ الاثنين في المئة من أصوات الشعب الفنزويلي، إلا أنه كان كافياً في المقابل ليحمل تشافيز على الإقرار علناً بأوّل خسارة تلحقها به المعارضة الليبرالية منذ تولّيه الحكم قبل ثماني سنوات.
رابعاً، ليست سلّة الإصلاحات الدستورية والاقتصادية التي يقترحها تشافيز بخفّة إصلاحات «شبيهة» و«مماثلة» في بلدان أخرى عالمثالثيّة وعربية خصوصاً، بل هي من الجذرية بحيث لا يمكن أي مواطن فنزويلي، سواء كان في المعارضة أو في الموالاة، إلا أن يقف أمامها موقفاً إن لم يكن نقدياً، فعلى الأقل جدلياً ومسائلاً.
ودليلاً على جذريتها يمكن على سبيل المثال لا الحصر، إيراد بعضها، الذي تناولته الصحف والمحطّات الإخبارية التلفزيونية بالتحليل والتعليق والاستقراء: «حقّ إعادة ترشيح الرئيس بدون حدود، تقليص ساعات العمل اليومي من 44 إلى 36 ساعة، خفض سنّ الاقتراع من 18الى 16 عاماً، الإصلاح التربوي الجذري في المدارس والجامعات، التأكيد على مجّانيّة التعليم الجامعي، منع خصخصة قطاع النفط، تعزيز دور القطاع العام، منع الاحتكارات، استحداث أشكال ملكية جماعية وتعاونية ومختلطة، إعادة تنظيم التقسيمات الجغرافية للبلاد، اعتماد سياسة خارجية تهدف إلى تحقيق عالم متعدّد الأقطاب ووحدة أميركا اللاتينية، جعل القوّات المسلّحة الفنزويلية جيشاً مناهضاً للامبريالية»...
هذا غيض من فيض ما أوردته الصحف والتلفزيونات، وعقّب عليه المراقبون والمتابعون للشأن الفنزويلي بالقول: إن هذا الاستفتاء في حال نجاحه، سوف يفضي حتماً إلى تغيير وجه فنزويلا مرّة واحدة وإلى الأبد، لكن في ذات الوقت لن يكون فشله أقلّ تأثيراً على المعادلة السياسية في هذا البلد الغني بالنفط والموارد الطبيعية الأخرى.
ولعلّ المقتل الذي أصيبت به مبادرة تشافيز «الإنقاذية»، يكمن في استعجال هذا الأخير، واستدعائه لحلول «دولتية» وتثويرية، لا يمكن تطبيقها عملياً ما لم يتوفّر لها فضاء مجتمعي متجانس وخالٍ من النتوءات والانقسامات السياسية. فأن يفترض تشافيز ومن معه أن الشريحة التي تدين بالولاء لليبرالية السياسية والاقتصادية (وهي شريحة ليست بقليلة داخل المجتمع الفنزويلي) سوف تذعن لمشاريعه اليوتوبية في «أنسنة» المجتمع الفنزويلي وأخذه إلى جنّة «الاشتراكية» الموعودة من دون «ممانعة» أو مقاومة تُذكَر، فهذا يعني أمرين اثنين لا ثالث لهما: إمّا أنه ـــــ أي تشافيز ـــــ واهم، وغير مدرك للتركيبة المجتمعية الفنزويلية، وهو أمر مستبعد بالنسبة لشخصية محنّكة وواسعة الاطلاع مثله، أو أنّه يفترض في ذاته القوّة والقدرة على هزيمة الخصوم الليبراليين ومن ورائهم الولايات المتحدة الأميركية. وهذا هو الاحتمال الأكثر معقولية، نظراً لبعض التصريحات التي أدلى بها وزراء في حكومته قبل يومين أو ثلاثة من موعد الاستفتاء، وكانوا يؤكّدون فيها على حتمية فوزهم و«تصفيتهم» السياسية «لبؤر» الاعتراض على مشروع الرئيس في بناء الاشتراكية.
يبدو ممّا تقدّم أنّ اشتراكية تشافيز الموعودة قد سقطت في امتحانها الأوّل، لأنّ صاحبها ومنظّرها افترض في ذاته قدرة فائقة على منحها صلاحيات استثنائية، أصابت بالذعر الحلفاء والأصدقاء قبل الأعداء، وهذا تماماً ما يضاعف من قيمة التحدّي الذي رفعه تشافيز في ظهوره التلفزيوني الأخير، وجعل منه عنوان المرحلة المقبلة، أي كيفية استعادة «التشافيزيّين الضالّين»، وخصوصاً في القطاع الشبابي والجامعي، حتى يعودوا مجدّداً إلى موقعهم الطبيعي ذخيرةً «لليسار البوليفاري» من جهة، وبيضة قبّان الاستفتاء القادم من جهة أخرى.
* كاتب سوري