strong> أحمد القصص *
لطالما تكلّم المراقبون عن الصحافة التابعة التي لا ترى إلا بعين واحدة، سواء أكانت هذه الجهة دولة أم حكومة أم طائفة أم حزباً، أم حلفاً سياسيّاً... فلا ترى من الأحداث والموضوعات إلّا ما يوافقها أو يرضيها أو يبرز نقائص خصومها وعثراتهم، أو يثبت رأيها ويضعف رأي خصمها، أو يحرّك عواطف جمهورها باتجاه ما تريد... أي بالإجمال، لا ترى إلا ما تريد أن تراه، وفق توجّهها السياسي.
ولمّا باتت هذه الظاهرة ممقوتة لدى قطاع عريض من الرأي العام والمثقّفين والمتابعين، ظهرت صحف ووسائل إعلامية جديدة تعلن اعتماد الحياديّة وعرض الآراء كافة دون تمييز بينها، وفق شعارات، مثل «الرأي والرأي الآخر» أو «صوت الذين لا صوت لهم» أو «المنبر الحر» أو «صوت الجماهير». وصحف ووسائل إعلامية أخرى أعلنت أنها صوت المستضعفين والشرفاء والمناضلين ضدّ الظلم في كل الأرض... إلا أنه لم يمض وقت طويل من التتبّع والترقّب لهذه الصحف والوسائل الإعلامية، ليتّضح أنها كسابقاتها التي لم ترفع هذه الشعارت.
ما دفعني إلى هذه المقدمة هو ما اتسمت به التغطيات الإعلامية للتظاهرات المواكبة لمؤتمر أنابوليس يوم 27 من الشهر الفائت وتداعياتها داخل فلسطين المحتلّة، ولا سيما مناطق الضفة الغربية. فقد غابت عن هذه التغطيات أدنى المعايير الصحافية الموضوعية، لماذا؟ لم نجد إلا جواباً واحداً: وهو أن الداعي إلى هذه التظاهرات والمنظّم لها هو حزب التحرير!
في الضفّة، حيث أصدرت سلطة عبّاس قراراً بمنع التظاهر وعقد المؤتمرات الصحافية المعارضة لمؤتمر أنابوليس، خرج رغم أنف هذه «السلطة» وتهديدها وقمعها الوحشي (وهو الوصف الذي استخدمته العديد من الصحف، والذي شجبته نخب في «فتح» نفسها فضلاً عن جميع المنظمات الحقوقية)، خرج ألوف المتظاهرين في العديد من المدن، كالخليل ورام الله ونابلس وجنين وغيرها متحدّين الرصاص والهراوات والغاز المسيّل للدموع، ما أدّى إلى ارتقاء الشهيد هشام البرادعي ووقوع عشرات الإصابات البالغة واعتقال العشرات. ثمّ تكرّر المشهد نفسه خلال تشييع الشهيد في اليوم التالي. ومع ذلك لم تحظَ هذه الأحداث الضخمة إلا بالنزر اليسير من التغطية الإعلامية، ولا سيما في الفضائيات الناطقة باللغة العربية، بل وتلك التي تتسم بالهوية «الإسلامية»!
وعلى الرغم من وجود عدسات التصوير في معظم التظاهرات في الضفة، إلا أنّ معظم التغطيات والتقارير الإخبارية اعتنت بعرض صور تظاهرات غزة، التي نظّمتها ورعتها مشكورة السلطة الحاكمة هناك، ولكن أيضاً من دون الإشارة إلى أنّ أولى التظاهرات في غزة هي تلك التي دعا إليها ونظّمها حزب التحرير!
أشهر الأقنية الفضائية، وهي التي رفعت شعار الرأي والرأي الآخر، والتي لطالما سارعت إلى استضافة المعنيين مباشرة بالأحداث الساخنة، ولو كانوا إسرائيليّين أو أميركيّين صهاينة، في برامجها السياسية الكثيفة واليومية، بدا كأنها لم تتنبه ـــــ والأصح أنها لم ترد التنبه ـــــ إلى أنّ الشهيد الذي قُتل في أجرأ تظاهرات ذلك اليوم هو من حزب التحرير، وبالتالي لم يخطر في بالها ـــــ والأصح أنها تجاهلت ـــــ أن تستضيف واحداً من الناطقين الرسميّين أو الممثّلين الإعلاميّين من هذا الحزب، على وفرتهم في السنوات الأخيرة.
وإذا كانت هذه القناة وغيرها قد ذكرت على استحياء أنّ المنظّم لهذه التظاهرات هو حزب التحرير، وأن الشهيد هو عضو فيه، فإن الفضائية (المقاومة) التي «تتوجه إلى العرب والمسلمين في كل أقطار العالم بخطاب توحيدي، وتركّز بموضوعية على تبنّي القضايا العادلة والمحقة للأمة جمعاء» كما تقول، والتي وسعت دائرة قضاياها إلى خارج الدائرة الإسلامية لتصل إلى كوريا شرقاً وفنزويلا وبطلها تشافيز غرباً، كانت حريصة كلّ الحرص على طمس هوية تلك التظاهرات وانتماء هشام البرادعي الذي انضّم إلى قافلة الشهداء. ولم يستهوها ممّا حدث في الضفة لتركّز عليه، إلا الأساليب الوحشية التي اعتمدتها السلطة في قمع التحرّكات، وذاك بالطبع لأنها في الخطّ المعاكس لخطّها وحلفها السياسي.
وحتى الصور الحيّة التي عرضتها تلك القناة، بذلت جهدها لكي تقتصر على مشهد رجال الأمن (ميليشيا عبّاس) وهم يطلقون الرصاص وينهالون بالضرب على الصفّ الأول من المتظاهرين، واستبعدت قدر استطاعتها الصور التي تظهر المتظاهرين والرايات واللافتات التي يرفعونها لأنها ستبرز هوية المتظاهرين، وهذا ما لا يجوز في حال في عقلية القائمين على القناة بالطبع.
لا يضيرنا أن نكتفي بهاتين الفضائيّتين مثالاً على التعتيم والطمس الإعلاميّين. فحين تكون هذه حال الفضائيات التي ترفع شعارات كهذه، فلا حاجة إلى النظر في تلك التي لم تكلّف نفسها عبء رفع مثل تلك الشعارات.
وإن كان القارئ يتساءل عن سبب هذا النهج في التعامل مع حزب التحرير وأنشطته وفعالياته، فإنني أسارع إلى الجواب، بأنّ القرار الغربي ومن ورائه القرار الإقليمي أوصى بذلك. ولكن يبقى التساؤل لدى الكثير: وما شأن الفضائيات التي تكنّ العداء لأميركا وإسرائيل وحلفائهما بهذه التوصيات؟ هذا السؤال أترك جوابه للقارئ، إن قدر عليه. وأختم مقالي بالتساؤل التالي: هل يجد هذا المقال صحيفة تتحمّل عبء نشره؟
* رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في لبنان