ناهض حتر *
في صيف 2003، زرت رئيس الوزراء علي أبو الراغب للحصول على تسهيلات مرور وإقامة لشخصيّات عراقية لها صلة بالمقاومة المنطلقة وقتذاك، والحائزة على شعبية واسعة. أجابني أبو الراغب، الذي كان محسوباً على أصدقاء نظام الرئيس صدّام حسين، قائلاً: «المعركة انتهت».
وكان هذا هو نفسه موقف خليفته، فيصل الفايز، حتى ربيع 2004، حين اعترف في حديث خاص، بأنّ الاحتلال الأميركي في العراق يواجه الفشل. كان ذلك بُعيد لحظة الوحدة المؤقّتة لقوى المقاومة، السنّية والشيعية (التيار الصدري). وهي اللحظة التي كسرت السيطرة الأمنية الاحتلالية على البلد، وآذنت بانكشاف المأزق الأميركي في العراق.
مذّاك، اتبّعت الحكومات الأردنية سياسة غامضة إزاء العراق. فإلى جانب استمرار التزامها دعم «العملية السياسية»، وتقديم خدمات لوجستية للاحتلال، وتشجيع الانخراط في أعمال تجارية مشروعة وغير مشروعة (مثل تجارة الخردة الملوّثة بالإشعاعات)، والحصول على حصّة من «بزنس» تدريب القوّات العراقية، ومساعي التقرّب من الأحزاب العراقيّة «الحاكمة»، وخصوصاً دعم «صديقها» القديم، إياد علاوي... إلى جانب كل ذلك وسواه، أصبحت عمان موئلاً للعراقيّين، بما في ذلك قيادات محسوبة على المقاومة والمعارضة، ولم تجرِ أية مضايقات جدّية للنشاطات الشعبية والإعلامية الكثيفة المؤيّدة للمقاومة العراقية، وبدأت السلطات نسج علاقات متنوّعة مع قياداتها، متبنّية لائحة مطالب سنّية، كانت محور النقاش الأردني ـــــ الأميركي بشأن العراق، منذ عام 2005.
وأثناء ذلك، تأسّست السياسة الخارجية الأردنية على الافتراضات الآتية:
1ـــــ حتمية الحرب على إيران،
2ـــــ عجز دمشق عن الخروج من عنق الزجاجة، وخصوصاً بعد اتهامها باغتيال رئيس الوزراء اللبناني ورأس حربة المشروع الأميركي في بلاد الشام، رفيق الحريري.
3ـــــ عجزها عن تجديد حضورها القوي في السياسة السورية والفلسطينية.
4ـــــ الثقة بإمكان نجاح إسرائيل في تدمير حزب الله، ولاحقاً، عدم تقدير الأهمية الاستراتيجية للهزيمة التي لحقت بالجيش الإسرائيلي في لبنان عام 2006.
5ـــــ الظنّ بقدرة «السلطة»، مدعومة من عمّان والعرب المعتدلين، على تحجيم «حماس» في المعادلة الفلسطينية.
6ـــــ إمكان توظيف الانخراط في دعم المشروع الأميركي في المنطقة، للتوصّل إلى تسوية عاجلة تضمن إنشاء كيان فلسطيني يرى الأردن قيامه ضرورة للحفاظ على كيانه الوطني.
وبينما كانت تلك الافتراضات تنهار، الواحدة تلو الأخرى، توصّل الاحتلال الأميركي في العراق إلى استحالة الاستمرار في تجاهل مطالب العرب السنّة الذين يشكّلون الحاضنة الاجتماعية للمقاومة. وكانت هذه الحاضنة قد أُنهكت تحت وطأة الضربات المتلاحقة لتنظيم «القاعدة» وللمليشيات الشيعية معاً، واتجهت إلى البحث في المصالحة مع الأميركيين، انطلاقاً من قانون الحفاظ على الذات. وقد نجم عن هذين التطورين سياق سياسي جديد في العراق، أنتج هدنة أمنية بين المقاومة والاحتلال، بل ونشاطات عسكرية مشتركة ضدّ ميليشيات «القاعدة» في المناطق الغربية الشمالية من البلد.
والمفارقة هنا، أن اتجاه الأحداث ذاك، ولو مؤقّتاً، نحو تبنّي المقاربة الأردنية الخاصة بضرورة التفاهم الأميركي مع سنّة العراق، لم ينعكس في تحسين موقف عمّان التفاوضي. بالعكس، بدت السياسة الخارجية الأردنية كأنّها تفقد هذه الورقة التي سقطت من تلقاء نفسها، بينما لا يمكن توظيفها أميركياً خارج التفاهم مع إيران.
الورقة الثانية التي راهنت عليها عمان، وخسرتها، هي ورقة السلطة الفلسطينية. فالأخيرة انحازت إلى تفاهم ثنائي مع إسرائيل،أخرج الأردنيين من ميدان التأثير على مجرى العملية التفاوضية. لقد وضع الرئيس الفلسطيني وراء ظهره سلّة الشروط الأردنية لقطف ثمار التحالف مع المشروع الأميركي في المنطقة، في تسوية نهائية مجدْولة زمنياً للمسألة الفلسطينية، تضع حدّاً لمشروع «الوطن البديل».
لقد ذهبت نخبة السلطة الفلسطينية إلى خيار «واقعي» هو الحفاظ على وضعها القائم في إطار الصيغة الإسرائيلية المرشّحة للديمومة، تلك التي تقوم على توضيب الوضع الفلسطيني على أساس «بعض الأرض من دون دولة»، واستيعاب «المعتدلين» في حرب مستمرّة على كلّ أشكال المقاومة الفلسطينية في الداخل، وعلى كلّ أشكال التدخّل العربي، أنّى كان ومن أين أتى، في العلاقات الثنائية الإسرائيلية ـــــ الفلسطينية، التي تحوّلت، موضوعياً، إلى علاقة داخلية. أمّا تصريحات وزيرة الخارجية الإسرائيلية الرافضة للمداخلات العربية في الشأن الفلسطيني، فهي ليست مطلباً، بقدر ما هي رسالة حازمة موجهة إلى عمان بالدرجة الأولى.
من الناحية الاستراتيجية، خسرت إسرائيل موقعها كمركز إقليمي للإمبريالية الأميركية. فحجم الحضور الأميركي في المنطقة، وضرورة تدبّره واستيعاب المقاومة التي يواجهها، وضعت إسرائيل في خانة الكيان المحلي، لا نيل ولا فرات، ولا دور إقليمي! في ظلّ اتجاه عام نحو تسويات في المنطقة ربما تكرّس إيران قوة إقليمية أولى.
وبينما تظهر التسوية الجدية على المسار السوري ـــــ الإسرائيلي بوصفها ضرورة أميركية، وتعبيراًَ عن موازين القوى المستحدثة، فإن الإسرائيليين يريدون تعويضاً: إذا كانت إسرائيل سوف تصبح دولة محلية، فلتكن إذن «دولة يهودية». ولن تسمح بعد، بالتدخل في شأن يتعلق «بالداخل الإسرائيلي»، بما في ذلك الشأن الفلسطيني، إلا في مجال واحد، هو مساعدات المانحين المنصبّة في توطيد السياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
يقول قيادي فلسطيني بارز هو صائب عريقات: «إنها دولتهم. فليسمّوها كما يشاؤون. المهم أن يعطونا حقوقنا». لكن الاعتراف بإسرائيل كـ«دولة يهودية» يعني شطب حقّ العودة الفلسطينية إلى أراضي الـ48، وتهديد الوضع القانوني لمواطنة ووجود العرب في إسرائيل. وبالنظر إلى الصيغة الإسرائيلية المقبولة من «السلطة» لدعم حكمها في إطار كانتونات مجزّأة في الضفة الغربية، فإن الأردن غدا مهدّداً بسلسلة من الهجرات الفلسطينية الجديدة، وسلسلة موازية من الضغوط الأميركية والأوروبية، لمنح المهاجرين الجدد ،كما القدامى، الجنسية وحصّة يتضاعف حجمها من التمثيل السياسي والفرص الاقتصادية.
ينبغي القول إنّ المخاوف التي تعتري عمّان حيال الضغوط الأميركية ـــــ الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن، هي المحرّك الرئيسي للسياسة الخارجية الأردنية. وهي ظنّت، جرّاء ثقتها المفرطة بالقوّة المطلقة للأميركيّين، أنّ السير وراءهم بلا تحفّظات سوف يمنح الأردنيين في النهاية، قوّة تفاوضية في الشأن الفلسطيني، تحافظ على المصالح الأردنية. لكن اللعبة انتهت بإخراج عمان منها كلياً.
على هذه الخلفية بالذات، أصبحت طريق عمان ـــــ دمشق، سالكة. ومن المنتظر أن تتطوّر هذه العلاقات إلى تفاهم ثنائي داخل تفاهم رباعي مع السعودية ومصر. وتلح المقاربة الأردنية، حالياً، رغم فتور الرياض والقاهرة، على إحياء صيغة مثلث القرار العربي التقليدي، لكن بشريك رابع هو الأردن. ولذلك، تواصل عمان مساعيها لعقد قمة عربية مصغرة للدول الأربع بمشاركة فلسطينية، لعلّ الهدف منها منع تهوّر «السلطة» إسرائيلياً، وإلزامها بالقرار العربي.
للأردن وسوريا الآن، مصلحة استراتيجيّة مشتركة في تحالف ثنائي وثيق، لتعديل موازين القوى لكل منهما إزاء خصومه وحلفائه معاً. ولعلّ أفضل ما يفعلانه، من أجل تحقيق هذا الهدف، هو التدخّل المشترك في مبادرة عربية في العراق، تساعد على إنشاء تحالف داخلي بين القوى السنّية والشيعية المستقلة عن النفوذ الإقليمي والاحتلالي. ففي العراق فقط، يمكن الإمساك بقرون الثيران، وتعديل الموازين على الجبهات الأخرى.
لا نعرف إذا كان البلدان سوف يتوصّلان إلى هذا الاستنتاج، غير أنهما سوف يتقاربان حتماً في الشأن العراقي، بالنظر إلى أنهما البلدان العربيان الأكثر قرباً من العراق، جغرافياً وسياسياً وثقافياً وإنسانياً. وللبلدين علاقات خاصّة داخل العراق، وهما يستضيفان القسم الأكبر من اللاجئين العراقيين.
على أنّ الأردن لن يخرج من عنق الزجاجة، في رأيي، من دون مقاربة مستقلة للموقف من إسرائيل، تفصل نفسها عن مسار المفاوضات الإسرائيلية ـــــ الفلسطينية، وتطرح المطالب الأردنية مباشرة، أي تطبيق الجزء الذي يعني الأردن من القرار رقم 194، وتأمين عودة اللاجئين والنازحين الموجودين على الأراضي الأردنية إلى ديارهم، بغض النظر عن تطورات المسار الفلسطيني. ويتطلب ذلك، مراجعة معاهدة وادي عربة 1994، وإعادة التفاوض الثنائي على حق العودة وحقوق الأردن المغتصبة في الأرض والمياه والأمن.
* كاتب وصحافي أردني