strong> خورشيد دلي *
أعادت الأزمة الأخيرة بين تركيا والأكراد العلاقة الأميركية الكردية إلى دائرة الجدل، على نحو هل هناك تحالف أميركي ـــــ كردي؟ وأين هذا التحالف من العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتّحدة وتركيا؟ وهل التحالف الأميركي ـــــ الكردي ينطلق من اعتبار القضيّة الكرديّة قضيّة سياسيّة بوصفها تخصّ شعباً محروماً من حقوقه الوطنية، أم أنّها تدخل في إطار الأولويات الأمنية الأميركية تجاه المنطقة؟
في الواقع، منذ العشرينيات وحتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي، أي تاريخ حرب الخليج الأولى 1991، لم تكن علاقات الولايات المتحدة بالحركة الكردية علاقة سياسية علنية كما هي الحال الآن، بل كانت علاقات أمنية سرية تندرج في الإطار الاستخباري. وكانت الولايات المتحدة تنظر دائماً إلى الأكراد على أنهم عامل بشري أمني مهم في منطقة استراتيجية مهمّة تتجاذبها التيارات القومية والدينية والمصالح النفطية والاقتصادية، أي أنّ جوهر السياسة الغربية، وعلى نحو أدقّ الأميركية، تجاه الأكراد لا يقوم على اعتبار قضية الأكراد شأناً كردياً مستقلاً، بل على اعتبارها أولوية أمنية يمكن استخدامها في الظرف المناسب ضدّ هذا الطرف الإقليمي المعني بالقضية الكردية أو ذاك. والقاعدة الذهبية هنا هي أنّ الغرب يسعى دوماً إلى وضع دول المنطقة أمام واقع المشكلة الكردية بتشابكاتها المعقّدة، وعندما تقتضي مصالحه شيئاً مع هذه الدول فإنّه يضع الأكراد أمام الأمر الواقع الصعب ليكونوا هم ضحية هذه السياسة.
في التجربة التاريخية لعلاقة الأكراد بالولايات المتحدة، هناك العديد من التجارب واللحظات التاريخية التي تحوّلت إلى انتكاسات عسكرية ـــــ سياسية ـــــ اجتماعية، عبّرت في الوجدان الكردي عن خيانة للأماني التي دافع الأكراد من أجلها طويلاً، في حين كان الساسة في الغرب يقولون مع كلّ انتكاسة كردية: «إنهم كانوا يقومون بواجبهم، وعلى الأكراد أن يميزوا بين النشاط الاستخباري والعمل التبشيري». فعلى الأقل هذا ما قاله وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر ردّاً على مناشدات البرزاني الأب له عقب الانتكاسة الكردية في عام 1975. وعليه، عند أيّ امتحان لهذه العلاقة، كما حصل في أثناء توصيات لجنة بيكر ـــــ هاملتون، سرعان ما تستفيق الذاكرة الكردية على الصور المليئة بالخيبة والفجيعة والأقدار... تلك الصور النابعة من مأساة السياسة على مذبح المصالح المرتبطة بالتطورات والأحداث.
في أحيان كثيرة، تبدو العلاقة الكردية ـــــ الأميركية خاضعة لشكل الحدث نفسه وعلاقته بالدول المعنية بالمشكلة الكردية على شكل دورة الأقدار والمصالح. تبدأ الدورة مع حدوث مأساة كردية هنا وهناك، ومعها تطفو إلى سطح الأحداث الدعائم الإنسانية والسلمية التي يتقرّب الغرب على أساسها من الأكراد، وفي اللحظة التي تتحوّل فيها هذه المأساة واقعاً سياسياً وكيانياً على الأرض، تبدأ الدورة كأنها أمام امتحان على مذبح المصالح والاعتبارات الأمنية لعلاقة الغرب بالدول الإقليمية المعنية بالقضية الكردية، ولا سيما تركيا. إلا أنّ هذه القراءة ينبغي ألّا تقلّل من وضع الكيان الكردي الناشئ بعد احتلال العراق وتحوّله إلى شكل من أشكال الدولة الفدرالية دون أن تكون هناك ضمانات دولية أو قانونية لهذا الكيان ما دام الأمن في العراق متفجّر والدستور الجديد لم يجد مجاله للتطبيق بعد والمطالبة بتعديله لم تتوقف، ولا شيء في الأفق يمنع انهيار سياسة إدارة بوش في العراق، في وقت تعمل فيه الدول المجاورة للعراق ليلاً ونهاراً على إفشال هذه السياسة.
ولعلّ ما يؤكّد حقيقة الأولوية الأمنية في علاقة أميركا بالأكراد تلك القراءة المجتزأة والمتناقضة للواقع الكردي (إظهار الصورة الإيجابية الإنسانية الديموقراطية للمطالب الكردية في العراق، مقابل الصورة الإرهابية لمطالبهم في تركيا، والإسراع في تقديم الحماية والمساعدة لأكراد العراق مقابل حظر حزب العمال الكردستاني وتصنيفه في خانة الإرهاب، وتفهم النهج الأمني التركي في التعامل مع هذا الحزب بل ودعم تركيا في ذلك...). وهكذا، فإن القراءة الأميركية للقضية الكردية في تطلعاتها، متناقضة في مشروعيتها وحتى في إنسانيتها
وأخلاقياتها.
الأكراد، رغم تجربتهم المريرة مع أميركا، هم أيضاً لم يحسنوا التعاون معها. فهم إمّا نظروا إليها بصفتها الإمبريالية والاستعمار، ويجب تالياً محاربتها حتى لو كان من ديار بكر، أو التعامل معها بصفتها قوة ضاربة في كل زمان ومكان، وبالتالي يمكن الاعتماد عليها والعمل لحسابها من دون حساب، كما هو الحال في أربيل والسليمانية. وكثيراً ما كان الأكراد ضحية لهذين الفهمين. ففي الحال الأولى تحولوا إلى إرهابيين مطلوبين للشرعية الدولية حيث المحافل الدولية والإقليمية مغلقة أمامهم، وفي الحال الثانية إلى عملاء للإمبريالية والصهيونية يعملون لتقسيم العراق والمنطقة. وفي الحالتين، أخفق الأكراد ومعهم المعنيون مباشرة بقضيتهم في بناء الثقة وإرساء أسس سليمة لحل هذه المشكلة بعد قرن من تفجّرها.
وفي جميع الأحوال، يمكن القول إنّ العلاقة الكردية ـــــ الأميركية ينبغي ألّا تخضع لقاعدة شهر العسل، حتى لو كان هذا الشهر عقداً من الزمن، بل لعلاقة المنطقة ككل بالاستراتيجية الأميركية. وهذا الأمر لا يتوقّف على الأكراد وحدهم، بل على العرب والفرس والأتراك وأقلّياتهم، ما دام الجميع يؤلفون معاً بنية حضارية واحدة في أمنها ودورتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية وبنيانها العام، وأنّ جوهر هذه القضية في سياقها الحضاري لا يخرج عن قضية الديموقراطية والمواطنة في المنطقة ككل، وهذه قضية لها علاقة بمعدلات التطور والوعي والعمل المؤسّساتي ومفهوم الدولة .
* كاتب سوري