إيلي نجم *
لم يقبل النازيّون الألمان، بُعيد فوزهم بالسلطة في أيّار عام 1933، أن يضعوا جانباً الأصل اليهوديّ للفيلسوف الألمانيّ إدمونت هوسّرل (1859-1938)، مؤسّس المنهج الفينومينولوجيّ، على الرغم من استشهاد ابنه الأصغر فولفغانغ عام 1916 على الجبهة الألمانيّة الفرنسيّة، وإصابة ابنه الأكبر غيرهارد في العام التالي، فمنعوه من إلقاء المحاضرات في جامعة فرايبورغ، وانتزعوا منه الجنسيّة الألمانيّة بعدما أدرجوه في خانة الأصول غير الآريّة.
ولا يزال بعض الناس عندنا يعيبون على الأولياء والمفكّرين والفلاسفة والعلماء (من أمثال السيّد المسيح وبولس الرسول وكارل ماركس وسيغموند فرويد وألبرت أينشتاين) أصولهم القوميّة اليهوديّة. كما لو أنّ الانتماء إلى عرق أو دين أو أصل معيّن يحول دون إطلالة صاحبه على المجال الإنسانيّ الأرحب، وكما لو أنّ الكونيّة والشموليّة تقوم من خارج المكان والزمان، أي من دون لون خصوصيّ، دينيّ أو وطنيّ أو قوميّ أو لغويّ أو ثقافيّ.
غنيٌّ عن البيان القول إنّ الوقائع التاريخيّة تسفّه هذا الزعم وتقوّضه. ذلك لأنّ الوليّ أو المفكّر أو الفيلسوف أو العالِم لم يعد أسير العنصر العرقيّ أو الدينيّ أو اللغويّ الذي أنجبه، ولم يعد بوسعنا اعتباره وليد هذه الأمّة أو ذلك المجتمع فحسب، بل غدا ملك الإنسانيّة. يقول هوسّرل، في هذا الصدد، إنّ الفلاسفة يعملون في خدمة الإنسانيّة جمعاء. وكان «الغيارى» من القوميّين اليهود المتشدّدين قد راهنوا قديماً على السيّد المسيح بحيث رأوا فيه خلاصهم من نير الاحتلال الرومانيّ، في الوقت الذي رأى فيه بولس الرسول أنّ المسيح جاء يخلّص البشر من نير الخطيئة، ومن نير الناموس أي من الشريعة الموسويّة. وفي الخمسينيّات من القرن الماضي، عرضَ اليهود الصهاينة على العالِم ألبرت أينشتاين أن يكون على رأس الدولة اليهوديّة الطريّة العود، فرفض. لكن ماذا عن موقف سيغموند فرويد، مؤسّس علم التحليل النفسيّ، من مشروع إقامة الدولة اليهوديّة في فلسطين؟
لم يخفِ فرويد تعاطفه مع الجمعيّة الصهيونيّة المقيمة وقتذاك في القدس العربيّة، التي طالبته تحديدًا بالاعتراض على العوائق التي كان الفلسطينيّون العرب يضعونها في وجه اليهود لجهة الصلاة عند حائط المبكى، لكنّه رفضَ توقيع هذه العريضة قائلاً في رسالة جوابيّة بعثها إلى هذه الجمعيّة بتاريخ 26/6/1930: «لا أعتقد أنّ فلسطين ستصبح ذات يوم دولة يهوديّة، وأنّ العالمين المسيحيّ والإسلاميّ سيكونان مستعدّين لأن يريا المدينة المقدّسة تحت السيطرة اليهوديّة». وأضاف ما معناه إنّه كان يفضّل أن يُقام وطن قوميّ لليهود على أرضٍ لم يترك التاريخ عليها بصماته بالقَدْر الذي تركه في فلسطين. إلاّ أنّه رأى أنّ هذا الأمر لم يكن ليحظى، لو تمّ، بتأييد العوامّ من اليهود، ولا بالدعم الماليّ المطلوب من جانب أثريائهم في العالم.
الواقع أنّ فرويد لم ينتصر لليهود ولا للفلسطينيّين. ولم يخفِ تعلّقه بجذوره اليهوديّة، على الرغم من تأكيده أنّه بعيد كلّ البعد عن الدين اليهوديّ وعن الدين بعامّة. وكان قد أعلن عام 1925 أنّ ما يربطه باليهوديّة ليس الإيمان ولا الزهو القوميّ الباطل، بل أمور عديدة لم يخض فيها البتّة. ثمّ أكّدَ في رسالة إلى العالِم أينشتاين بتاريخ 26/2/1930 أنّه لا يتعاطف مع هؤلاء من أبناء جلدته الذين «صنعوا ديانة قوميّة انطلاقًا من حائط هيرودُس»!
والآن ماذا عن المقارنة التي يجريها المؤرّخ الإيطاليّ ميشيل رانشتّي في كتابه «أرض الميعاد» بين سيغموند فرويد وتيودور هرتزل، مؤسّس الحركة الصهيونيّة؟ يقول رانشتّي إنّ أرض الميعاد هي فلسطين بالنسبة إلى الإيديولوجيّ هرتزل، فيما هي الوعي البشريّ بالنسبة إلى المفكّر فرويد. والحقّ أنّ فرويد لم يلتقِ هرتسل فعليّاً ولا إيديولوجيّاً ولا بالطبع فكريّاً، على الرغم من أنّهما أقاما في «برغْشْتراسّه»، الشارع الشهير في فيينّا في النمسا.
يبدو أنّ هذه المقارنة هي محاولة أخرى لإعادة فرويد إلى أصوله اليهوديّة وحشره فيها. حسبنا أن نستعيد ما سطّره بنفسه في الصفحة الأولى من الكتاب الأخير الذي نشره قبيل وفاته عام 1939 (وهو يحمل العنوان الآتي: «الإنسان موسى والدين التوحيديّ») ومفاده أنّ اعتبار «المصلحة القوميّة المزعومة» لا يقعده البتّة عن البحث عن الحقيقة وقولها...
* كاتب لبناني