سعد الله مزرعاني *
على امتداد الحقبة التي ترقى إلى الاستقلال في أواسط الأربعينيات، ثابر فريق لبناني، على المبالغة في امتداح «الصيغة اللبنانية» إلى درجة وصفها بـ«المعجزة» الصافية التي لم يسبقنا أحد إلى مثلها. كان هذا الفريق، بالنتيجة، ينفي أي خلل فيها، وينسب كل مصاعبها ومتاعبها وأزماتها إلى «الخارج»، أو إلى فريق مرتبط بهذا الخارج، بما ينفي عن هذا الفريق لبنانيّته، أو ينتقص منها أقله.
طبعاً، لم تصمد هذه النظرية أمام تلاحق وتعدّد ودوريّة الأزمات التي تعرض لها لبنان. الكابوس الذي يعانيه اللبنانيون منذ أشهر (بكل ما يلوح خلفه من كوارث واحتراب...)، هو آخر علامات إفلاس «الصيغة»، لا عجزها فحسب.
في هذه الدراما المتصاعدة التفاقم والتأزّم، يمضي أطراف لبنانيّون فاعلون في مهمّتهم العادية: يحاولون عبر رزمة من العوامل، تحسين شروط الصراع لمصلحتهم. نستطيع الزعم أن البعض منهم، أقله، لا يعبأ بالنتائج العامة لما آل إليه، أو يمكن أن يؤول إليه، وضع البلاد والعباد.
لا يخفى أن الإمعان في هذا النهج، بات جزءاً من الأزمة نفسها. وهو، بالتأكيد، أحد الأسباب الأساسية لاستعصائها على التسويات ولو المؤقتة.
وفي مقابل ذلك، تزداد الأصوات الباحثة عن الحلول من موقع الشعور بالأزمة، أو الشعور بضرورة الخروج من الحلقة المفرغة التي يدور فيها لبنان وتكاد تدفعه إلى ولوج أسوأ الاحتمالات.
وقبل أن نتناول تلك الأصوات، لا بد من العودة إلى بعض الإشارات التي أطلقها دعاة سابقون بارزون، لـ«الصيغة المعجزة».
يحضرنا في هذا الصدد ذلك القول المشهور الذي صاغه الصحافي والمفكر جورج نقاش، حين حذّر باكراً، من أن «نفيَين لا يبنيان وطناً»! والمقصود بذلك هو تخلّي «الجناح المسلم» عن طلب الوحدة مع سوريا، وتخلّي الجناح المسيحي عن الالتحاق بالغرب (فرنسا أساساً).
أما المفكر الآخر، بل والمنظّر الأساسي لـ«الصيغة» اللبنانية، ميشال شيحا، فقد بدا، مع ذلك، مدركاً للخلل الذي تنطوي عليه. ولذلك سعى لكي تكون منفتحة على شيء من التبدل والتطور. وكانت من بين الأطر التي أنشأها لهذا الغرض، «الندوة اللبنانية»، وهي منبر حواري رمى من خلاله إلى احتواء الامتيازات والتباينات، وتوليد قناعات جديدة بشأن صيغة العيش المشترك، ومستلزمات ذلك في تعديل بعض الاختلالات في مؤسسات الدولة اللبنانية، وخصوصاً لجهة مصدر القرار فيها.
البيان الوزاري الأول لحكومة الاستقلال (برئاسة أحد رجالاته رياض الصلح)، انطوى، هو الآخر، على وعد بإزالة «العار» الذي قضى، مؤقتاً، باعتماد التوزيع الطائفي (المادة 95 من الدستور قبل تعديله وفق اتفاق الطائف، وبقانون دستوري رقم 18 تاريخ 21/9/1990).
لكن تلك الإشارات ومعها محاولات التبديل والتعديل والإصلاح الجزئي، ذهبت أدراج الرياح. هكذا قبل «الطائف»، وهكذا حصل أيضاً بعد الطائف، وسط تواطؤ أطراف «الصيغة» في الداخل، وداعميهم وحلفائهم (أو أسيادهم)، من الخارج.
لاحظنا، إذاً، أن أصواتاً جديدة وإضافية ترتفع، منذ فترة، مشيرة إلى الخلل في النظام اللبناني. والواقع أنه يمكن تصنيف هذه الأصوات ضمن اتجاهين:
اتجاه أول، توصّل من خلال التجربة والخبرة (والمعاناة أيضاً)، إلى وضع الإصبع على الجرح في النظام السياسي الطائفي اللبناني. ورموز هذا الاتجاه صاغوا مواقف واقتراحات تصبّ في مجرى السعي لإصلاح هذا النظام، بإعادة النظر في مرتكزاته الطائفية: في الأسس وفي التوازنات وفي دور القوى المستفيدة نفسها (مثلاً، بتعديل قانون الانتخاب باتجاه النسبيّة).
لكن ثمّة اتجاهاً آخر، آخذ في التبلور، ونبرة أصحابه لم تعد خجولة وغير مباشرة، كما في السابق. هذا الاتجاه يعلن، ربما، بوضوح، رفضه للنظام السياسي الراهن، ويشير بحدّة أكثر إلى تكرار أزماته وبلوغ الحلول، بشأنها، الطريق المسدود. إلا أن التدقيق في استنتاجات هذا الفريق، تحيل إلى شيء مختلف، تماماً، بصدد المعالجات والحلول والمقاربات. إننا هنا أما تيّار، لا يوافق على إعادة النظر بـ«الصيغة»، بل بلبنان من أساسه. ويروّج هذا الفريق لمفاهيم الفدرالية، وحتى ما هو أبعد من ذلك. تعزز طرح هذا الفريق، ضخامة التباينات التي يعانيها الاجتماع اللبناني، مقرونة بالمآسي وعدم الاستقرار واحتمالات العودة إلى الحرب الأهلية، ومدعّمة بتبلور الكتل الطائفية في دويلات شبه متكاملة في كل الميادين والشؤون... إلى تنافر يتعمّق في العادات، ورفض الآخر، والسعي لإلغائه بكل السبل المتوقعة أو غير المتوقعة.
في الجوهر، هذا الاتجاه، هو الابن الطبيعي لأزمة «الصيغة» إذا قدّر لها أن تبلغ مداها الأقصى. إنه ابن معادلة: إذا تعذّر التقاسم، فلا مناص من التقسيم. في خلفية هذا الفريق، أن لبنان، يكون كما «تأسس» منذ الاستقلال (وحتى الحرب الأهلية) (1975ـــــ1990)، أو لا يكون. إن التقسيم المقنّع (عن قصد أو غير قصد) بدعوات الفدرالية، هو الوجه الآخر (الانتحاري والأكثر كارثية) لنهج تعديل توازنات النظام بالقوة المحلية أو بالاستقواء بالخارج، أو بالاثنين معاً!
***

يتقاطع ويتفاعل الصراع الداخلي اللبناني، كما هو بيّن، مع صراع وتناقضات المنطقة. ويعزز ذلك في الصراع اللبناني، عناوين سياسية لا تخلو هي الأخرى، من تداخل العامليَن، السياسي من جهة، والطائفي والمذهبي من جهة أخرى. وقد كشفت جملة محطات أساسية في النزاعات الكبيرة القائمة في لبنان والمنطقة، أن العامل الطائفي والمذهبي يصبح معوِّقاً حقيقياً لنشاط القوى المناهضة للمشروع الأميركي الصهيوني للسيطرة على المنطقة، إذا ما أريد لهذا النشاط أن يستمر، وأن يتّسق في نهج كامل للتحرير وللتقدم وللتوحد وللسيطرة على المصير والأرض والثروات. هذا ما اتضح، بشكل صارخ، بعد العدوان الإسرائيلي في تموز عام 2006، حيث حال اندلاع التناقضات المذهبية اللبنانية بشكل مسعور، دون إطلاق انتصار المقاومة ومعها صمود الشعب اللبناني، إلى المدى الضروري لجهة التعبئة والاستنهاض ومحاصرة القوى الرجعية العربية التي أدمنت الخضوع والتواطؤ والاستسلام (وكانت ذروة ذلك أثناء العدوان نفسه).
***

يطرح تأزّم الوضع اللبناني على النحو الذي تناولنا جزءاً منه، جملة مسائل ملحّة: أوّلها، ضرورة إصلاح النظام اللبناني، بالتخلص من المرتكزات الطائفية التي يقوم عليها، وباستبداله بنظام ديموقراطي قائم على المساواة وعلى مؤسسات حصينة في دولة عربية سيّدة مستقلة... وثانيها، إدراك أهمية الربط الجدلي (في الاتجاهين) ما بين مناهضة المشروع الأميركي ـــــ الصهيوني، والتخفّف من العبء المذهبي والطائفي. وثالثها، التبصّر الجدّي جيداً بمستلزمات نهوض تحرري أشمل يزاوج في المدى العربي الأوسع، ما بين، ما يسمى «الممانعة»، والديموقراطية.
قلنا إن هذه العملية، يجب أن تجري في الاتجاهين. فالثغرات القائمة في صلب برنامج القوى الشعبية المقاومة (لجهة مرتكزاتها وبرامجها التقليدية وتعبئتها المذهبية) لا يعادلها (أو يفوقها) إلا انكفاء القوى الديموقراطية (هل هي فعلاً كذلك! أم ينبغي وصفها فقط بالقوى غير الطائفية وغير المذهبية؟) عن النهوض بدورها في حقل المقاومة بكل أشكالها الضرورية، بما فيها المقاومة المسلّحة للمحتل والغاصب والغازي، في الزمان والمكان المناسبين.
* كاتب وسياسي لبناني