strong>فايز فارس
يُحكى أنّ بلداً اسمه لبنان قد غرق ذات سنوات طوال في بحر من الدماء البريئة قبل أن يطفو على السطح بمساعدة وهمّة «طائف»، أعاد جمع طوائفه. وأُدخلت كل طوائف هذا البلد الصغير في مشروع جديد حمل عنواناً كبيراً هو «جمهورية الطائف». مع الإشارة إلى أن هذا الدخول الميمون تمّ في ظروف بدت فيها كل طائفة تعاني في داخلها من التمزّق وشدّ اللحاف بشكل لا يُحتمل ولا يُطاق. لذا تمّ اختيار قادة وساسة أُوكل إليهم أولاً مهمة جمع شمل أهل طائفتهم كشرط أساسي لإنجاح عملية «إعادة البناء والإعمار» التي كُلف بها مجلس وزراء طويل عريض، بصفته المرجع الأول والأخير، وبعدما تمّ تعطيل كلّ المؤسّسات الأخرى، من رئاسة الجمهورية ومجلس النوّاب، وصولاً إلى المجالس البلديّة لمصلحته، أي لمصلحة مجلس الوزراء بكل ما يتضمّن ذلك من مركزية القرار وسلطة تنفيذية إجرائية تتحكّم بكل السلطات من دون استثناء، و«إعفائها» من أية مساءلة حقيقيّة أو محاسبة فعليّة.
وسارت الأمور على أساس أن «البلد ماشي، والشغل ماشي ولا يهمك يا فخامة الرئيس»... إلى أنّ تمّ انتخاب رئيس جديد شاءت الظروف أن لا يشبه خلفه حتى لا نقول إنه جاء نقيضاً له.
ووقعت الواقعة يوم اعتكف رئيس كبير، رافضاً تكليفه تأليف حكومة جديدة. ودخلت البلاد بداية في صراع غير معلن على السلطة ونزاع داخلي صامت اختلّت بسببه التوازنات وتبخرّت التفاهمات وسقطت الاتفاقات... بينما العالم بأسره، بين جار وأخ وصديق قريب وبعيد، يتربّص بجمهوريتنا الثانية الفتيّة. وإذ «بنيزك» عربي إسلامي يضرب مدينة نيويورك عاصمة القرار الدولي صباح ذلك الحادي عشر من أيلول 2001. وتركّزت الأقمار الصناعية وآلات التصوير العالمية على هذا الشرق التعيس. وبما أن لبنان هو مفتاح هذا الشرق، كان عليه أن يسدّد قيمة «فاتورة» ما، بالرغم من عدم وجود علاقة أو ارتباط ما، لا من بعيد ولا من قريب، بكلّ ما حصل في ذلك اليوم المشؤوم. إلا إذا اعتبرنا أن ماضيه القريب (الفترة الممتدّة من اتفاق القاهرة إلى اتفاق الطائف) يلاحقه حتى آخر طفل من أطفاله.
لا شكّ أنّ العالم لا يحب لبنان واللبنانيين، وملعونة هي الجغرافيا التي حشرت هذا اللبنان وأهله منذ تأسيسه في منطقة هي الأغنى في هذا العالم بموقعها وحضاراتها وناسها ونفطها وغازها، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بينما قادته يعيشون في حالة من الضياع والانقسام حتى لا نقول الانفصام، بعدما أدخلوا بلدانهم في تلك المعادلات والأحلاف السياسيّة الدوليّة الفاشلة مدى قرن من الزمن، وعجزوا عن تشكيل وحدة ما تحفظهم اليوم من نظام أحادي أصمّ أعور أعرج.
لكن الويل، كل الويل، للصغار عندما يكونون في ملعب الكبار. لذا، نرى بعض قادتنا قد حزموا أمرهم وأدركوا حقيقتهم وواقعهم وقرروا العمل والسعي من أجل جمع ما أمكن من شمل وطاقات وقدرات حفاظاً على ما بقي، أو ما أمكن، من استقلال لأوطانهم وسيادة لدولهم وحرية لشعوبهم. وبما أنّ لبنان لا يشبه كثيراً بقية الأوطان، وبما أن شعبه عظيم، كان على قادته أن يبادروا على الأقل إلى عمل ينقذه ويجنّب شعبه ويلات سبق له وذاق طعمها المرّ. لذا رأينا بعضهم يعاند ويرفض ويخطط وينفذ وينجح ويبرع وينتصر وينهض من كبواته مهما بلغت... ويدهش العالم. وإذ باللاعب الأكبر يتحيّن الفرصة الثمينة لضرب هذا البلد الصغير الضربة القاضية وإخضاع شعبه العظيم إلى الأبد. وعاش البلد وناسه على إيقاع الاغتيالات والتفجيرات التي طالت الكبار والصغار معاً. لكن البلد بقي واقفاً «منتصب القامة» ولم يغادره أهله كما كان متوقّعاً ولم يتحاربوا في ما بينهم كما كان منتظراً. لذا أتخيّل هؤلاء المراقبين الدوليّين وهم يردّدون في ما بينهم: غريب هو هذا الشعب وعجيب هو هذا البلد.
ويبدو أنّ اللاعب الأكبر ما زال مستمرّاً في تنفيذ خطّته. ففي الأمس القريب، وبينما كان البلد وأهله في حالة انتظار وترقّب حصول أو تأجيل جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تمّت عملية اغتيال شاب جنوبي معاند صامد مقاوم آخر. وفوجئ البعض بأنّ هذا الشهيد البطل هو جنوبي مسيحي ماروني هذه المرّة وليس مسلماً شيعيّاً... وتذكّروا أن الخميرة في الأساس هي جنوبيّة والمعجن لبناني وإن كان الطحين عربياً أو أميركياً. وهنا السؤال: متى سيدرك أهل بيروت والجبل والشمال قيمة أن تكون جنوبياً؟ فقد علّمتنا السنين الطوال أن ننحني أمام كل جنوبي نلقاه، وجعلتنا نقول لأبناء بيروت والجبل والشمال «ندعوكم إلى أن تذهبوا ولو مرّة واحدة في حياتكم للعيش مع عائلاتكم بضعة أيام في قرية أو بلدة جنوبية، وانظروا إلى حال الفلسطينيّين... حتى تعرفوا قيمة ومعنى خسارة بيت وأرض ووطن».