آن ندّور
كان يمشي... غير مدرك لأي شيء... من شارع إلى شارع... من حي إلى حي... محاولاً الهروب... من ذاته، من واقعه، من بيته وأسرته... ومن لحظة لأخرى كان يتحسس القطعة النقدية اليتيمة في جيبه الواسع. كان يضحك ويبكي، فالعيد غداً وأولاده وزوجته في المنزل ينتظرونه. لقد قبض معاشه منذ ساعة وفقده في الساعة نفسها، فغداً العيد والكل يريد استرجاع نقوده...
أحسّ بضجيج هائل في رأسه. أحسّ بثقل الدموع في عينيه... ثلاثة أعياد مضت وهو يعد أولاده بثياب جديدة...
كان يتحسّس القطعة النقدية، ويفركها بغضب، محاولاً اعتصارها... استنساخها، ...خنقها.
جلس على الرصيف المتعجرف إلى جوار رجل بدا مثله كتلة من الحزن المتجمد. أخبره الرجل الآخر بأنه بحاجة ماسة إلى شراء دواء لولده المريض. ولكنه لا يملك كامل ثمنه. أخرج القطعة النقدية وأعطاها للوالد الحزين: «هدية فقير لفقير في ليلة العيد». وتابع طريقه بارتياح كبير وقد أثقلت عليه هذه القطعة النقدية كثيراً.
وصل البيت. كان الجميع بانتظاره. هرولت إليه زوجته وأولاده. ولمّا رأوه فارغ اليدين، انكمشت وجوههم، وغادرتهم الابتسامة. جحظت عيناه وانقبض صدره!
فتح باب غرفة النوم واستلقى على سريره. أغمض عينيه بقهر، وتمنى أمنية العيد. العيد إنه الوخزة المؤلمة والطعنة النجلاء التي تطعن فيها عدالة الحياة الفقير في كرامته وحياته. تنطفئ الأنوار في الأزقة والحارات والبيوت الفقيرة ويغفو الناس الأشقياء على موسيقاهم اليومية، موسيقى الحزن والحرمان.