أحمد بهاء الدين شعبان *
لم يكن طه حسين يظن، حين أهدى كتابه الشهير «المعذّبون في الأرض» إلى «الذين يحرقهم الشوق إلى العدل، وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل»، أنّ صرخات هؤلاء المعذّبين، حتى بعد عقود من هذه الصيحة الملتاعة، لا زالت تدوّي في أصقاع الأرض المصرية الآمنة الطيبة، وأن أهلها ما زالوا يئنّون تحت وطأة الرعب والقهر والإذلال والترويع، وأنّ سجلّ «الحكم الوطني» سيفوق بمراحل سجلّ الاحتلال والدولة الملكية الفاسدة، بل ويتجاوز كل الحدود المتصوّرة.
فالثابت أنّ المصريّين يتعرّضون يوميّاً لممارسات وتجاوزات بشعة، سوّدت ملف النظام وجعلته رمزاً للاعتداء على الحقّ والافتئات على الحرية، وجعلت تلك الممارسات تنتقل من كونها مجرّد تجاوزات متناثرة هنا وهناك، تنتهك فيها القوانين والحقوق الإنسانية المقرّرة عالمياً، والموقَّع عليها من طرف نظام الحكم المصري (كأغلب دول «العالم الثالث»!)، لأن تصبح انتهاكاً يومياً لآدمية الإنسان، وبحيث أصبح التعذيب في مصر نمط حياة مستمرّاً ومستقرّاً ومنهجياً، أو في أحسن الأحوال «شبه منهجي»، مثلما يؤكّد تقرير «لجنة حقوق الإنسان» الصادر عن الأمم المتحدة عام 2002.
وعلى حدّ تعبير المسؤول في منظمة «هيومان رايتس ووتش»، جو ستورك، أصبحت هذه التصرفات «منذ زمن طـويل، انتهاكات منهجية خطيرة». بل إنّ بيان المنظّمة ذاتها الذي علّقت فيه على اختيار مصر لعضوية «مجلس حقوق الإنسان» بالأمم المتحدة، رأى أنّ سجلّ الحكم المصري المروّع في مجال حقوق الإنسان «يجعل من قبول (مصر) عضواً في المجلس خياراً غير ملائم». وليس غريباً والحال هكذا، أن يناقش هذا المجلس في دورة واحدة وحسب (دورة 28/9ـــــ 6/10/2006 ) تسعة تقارير دفعة واحدة، تتضمّن شكاوى على انتهاكات لحقوق الإنسان ارتكبها النظام المصري ضدّ المواطنين في ذلك العام. وهذه الانتهاكات تتعلّق حسب بيان «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» بالتعذيب، والاحتجاز التعسّفي، والاختفاء القسري، والقتل خارج القانون، ومكافحة الإرهاب، وحرية الرأي والتعبير، وحرية الدين والمعتقد، والعنف ضد المرأة، وأوضاع المدافعين عن حقوق الإنسان.
وكان آخر هذه البيانات الدوليّة، ذلك الذي صدر عن «منظمة العفو الدولية» بتاريخ 6/11/2007، والذي كرّرت فيه وصف ما يجري في مصر بـ«التعذيب المنهجي». ويشير التقرير الذي صدر تحت عنوان «مصر: هناك حاجة لاتخاذ إجراءات شاملة ضدّ التعذيب»، أن «مزاعم التعذيب مدعومة بأدلّة مصوّرة مثل أفلام الفيديو التي تظهر أحداث التعذيب وسوء المعاملة، ويتمّ بثّها على الإنترنت». وأشارت المنظّمة إلى أنّها «أعربت مراراً عن قلقها من الانتشار الواسع، والاستخدام المنهجي للتعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة من جانب مسؤولي الأمن المصريّين، خاصة في تحقيقات جهاز مباحث أمن الدولة الذي يمتلك سلطات واسعة في ظلّ قانون الطوارئ، الذي أبقت عليه الحكومة بصفة شبه مستمرّة خلال الأربعين عاماً الماضية».

الحرق حيّاً!

يحكي الشاب يحيى عبد الله عتوم، الذي حقّقت نيابة مطروح في وقائع تعذيبه داخل قسم شرطة سيوة، ما حدث معه فيقول: «كلمة تعذيب هذه كلمة بسيطة لما تعرّضت له... أنا مُتّ وصحيت 100 مرة بسبب الحرق والطحن والفرم وكل ما تعرّضت له داخل قسم شرطة سيوة. كان ضباط المباحث أ. ز وع. م. وم. خ، ومعهم «البلوك أ. ق» يتناوبون على تعذيبي أحياناً، وأحياناً أخرى يتشاركون في عملية التعذيب، قيّدوا يديّ بحبل ووضعوا على عينيّ عصابة، ثمّ علّقوني على باب الغرفة وقالوا: «حتعترف بالسرقة وإلا نكمّـل؟! ... فقلت لهم «أنا بريء» فألقوني على ظهري على الأرض، وظلّوا يضربونني بالأحذية في بطني وصدري ويقفون على وجهي ورأسي وجسدي. وحين رفضت الاعتراف بما لم أفعله ربطوا أسلاكاً كهربائيّة على عضوي وفي مؤخّرتي وفي قدمي، ثم صعقوني بالكهرباء مرّات لم أذكر عددها، وعندما رأوا أنّني لم أعترف قام الضابط ع. م بسكب السبيرتو (الكحول) الأحمر على جسدي، بعد أن جرّدوني من كلّ ملابسي، ثمّ أشعل النار بولّاعة سجائره فاشتعلت النار في جسمي كله، فصرخت فيهم: «ارحموني ارحموني»، لكنهم كانوا مستمتعين».
وباقي القصة معروفة، فقد استدعى الضابط ـــــ بعدما أشرف الضحية على الهلاك ـــــ أحد سائقي سيارات النقل العاملة على خطّ «السلوم ـــــ بني غازي»، وأمره بحمل الشاب البائس إلى الصحراء الليبية، وأن يلقيه في السر، حتى يختفي إلى الأبد. لكنّه تمكّن من الهرب من السيارة، وهو بين الحياة والموت، والاتصال بأهله. ومن ثمّ تكشّفت أبعاد الجريمة الوحشية.

«يا همّ يموتوا يا إحنا نموت»

ألقت قوّة كبيرة من ضبّاط وجنود قسم شرطة حلوان القبض على أحد عشر شخصاً من عائلة واحدة، وتعرضوا جميعاً ـــــ كما يشير تقرير «مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف» المعنون «أيّام التعذيب: خبرات نساء في أقسام الشرطة» ـــــ لتعذيب وحشي، وذلك بهدف دفعهم للاعتراف على أحد أفراد العائلة المتهم في جريمة قتل. وشمل ما تعرّض له المعتقلون «تعليق الرجال، والتعرية الكاملة للنساء، مع التحرّش وهتك العرض الذي يكاد يصل إلى الاغتصاب الفعلي، وتم ذلك (إمعاناً في الإذلال) أمام أقاربهم وأبنائهم الذكور».
تقول سعدية، إحدى الضحايا: «ليلة النصف من (شهر) شعبان كنّا نحضّر لفرح، هجم علينا أكثر من أربعين شخصاً بالأسلحة. دخلوا البيت والبنات في لباس النوم، ضربونا جميعهم وأخذونا معهم. أنا نقلوني إلى قسم شرطة حلوان، قعدنا في الثلاجة، حجرة قذرة تفوح منها رائحة البول، وأمر الضابط المخبرين بأن يبوّلوا أمامنا على الأرض، ضربوني بالسوط على كل جسمي، ونزعوا ثيابي عني وبقيت ثلاثة أيّام من دون نوم، والضابط م. ش. اعتدى عليّ جنسياً... كنت أموت. اعتدوا عليّ واغتصبوني أمام أنظار أولاد أخي وأولادي. ثمّ قال لي الضابط سأحرّر لك محضر دعارة. وهدّدني بأن ينزلني إلى المساجين لكي يغتصبوني. وابنة شقيقتي قالت لي إنّه في قسم شرطة مايو، حصل معها الأمر نفسه من اعتداء واغتصاب، وإنّ ذلك حصل أيضاً مع امرأة أخرى كانت قد وضعت طفلها قبل أربعة أيام، والطفل كان معها...».
وأنهت سعدية حكاية مأساتها بقولها وهي تنتحب: «أحد عشر نفراً من العائلة تعرّضوا لكل أشكال الإهانة، لذلك لن نترك حقّنا يضيع أو نتنازل عنه ولن نقبل بصلح ولا بتعويض... لم يعد ينفع إلا يا هُم يموتوا يا إحنا نموت!!».

احتلال «محلّي»!

وعلى طريقة العقاب والترويع الجماعي، وإجبار قوات الاحتلال الصهيوني أبناء الشعب الفلسطيني المعتقلين على خلع ملابسهم والبقاء بالملابس الداخلية وحدها، تمّ القبض على أكثر من خمسين مواطناً في قرية «عرندس» بالقرب من بلقاس ـــــ دقهلية، بينهم عدد من الأطفال وست عشرة امرأة، وذلك بعد أن قامت الشرطة بضرب حصار مسلّح حول المنطقة، وقطع الطرق المؤدّية إليها. وكان الهدف هو تأديب عائلة في القرية، «تطاول» شاب منها واحتجّ على ضابط شرطة اعتدى على والده بالضرب والشتم، فتمّ التنكيل بجميع أفراد الأسرة، وأوسعوهم ضرباً، وكسّروا أبواب البيوت، وحطموا الثلاجات والتلفزيونات، وخرّبوا المواد التموينيّة بأن ألقوا بالكاز على الحبوب، وقبضوا على العشرات من سكان المنطقة، وفرضوا حظر التجوّل عليها لمدّة سبعة أيام كاملة! وتقول سيدتان من المعتقلات: «حرقوا الأحجبة والملابس وسجنونا مع الرجال، وأخرجونا إلى الشارع عراة، وعندما خرجنا من السجن، كنّا عراة بالملابس الداخلية فقط أمام الناس ولم يكن معنا مال لاستئجار سيارة تسترنا!».

«دوس اللي يقف في طريقك!»

قُتلت الفتاة رضا بكير شحاته، في حي المطرية (محافظة القاهرة)، تحت عجلات سيارة الشرطة، بعد أن أعطى الضابط المرافق لقوة تنفيذ الأحكام، أمراً للسائق بأن يدهس كل من يقف في طريقه أو يحتجّ على سلوكه الفظّ. واعترف سائق سيارة الشرطة بأن ضابط الشرطة الرائد و. ن. أمره بالتحرك بسرعة، وقال له: «دوس اللي يقف في طريقك». وأكّد الشهود لجوء الضابط لشتم السائق وتوبيخه حتى لا يتردّد في تنفيذ أوامره، وأن أحد أمناء الشرطة المصاحبين له ضرب السائق بظهر المسدس على رأسه، حتى لا يتلكّأ في تنفيذ تعليمات الضابط. وكانت النتيجة دفع السائق للتحرّك بسرعة والفتاة واقفة أمامه وممسكة بالمرآة والمسّاحة، وظلّت السيارة تدهس الفتاة طول الطريق، حتى لفظت أنفاسها، بعد أن مزّقتها العجلات لتلطخ بدمائها الشارع بأكمله!

ساديّون ومسالخ بشرية!

هذه الوقائع التي أشرنا إلى تفاصيلها البشعة والمهينة على لسان «أبطالها»، هي نماذج قليلة حيّة لمئات من وقائع التعذيب التي تطال السياسيّين والمواطنين العاديّين، وكل من يوقعه حظّه العاثر بين براثن ضباط ساديّين، أدمنوا انتهاك آدمية الإنسان المصري، وحوّلوا أقسام الشرطة التي كان شعارها ذات يوم «في خدمة الشعب» إلى مسالخ بشرية ملطّخة بدماء المواطنين البسطاء العاديّين، ولم تسلم من أذاهم أي فئة من فئات المجتمع، حتّى الأطفال، الذين دفع انحراف عدد من هؤلاء الضباط إلى إصدار الأمر لبعضهم بممارسة الشذوذ علناً في أحد أقسام الشرطة بمدينة كفر الشيخ، على النحو الذى تفجّرت وقائعه المشينة أخيراً. فما يحدث في مصر هو «تعذيب منهجي» تجاوز كلّ الحدود والصلاحيات، ويسّر لضبّاط الشرطة، وخاصة لضبّاط «مباحث أمن الدولة»، كلّ الحق في دوس القانون وخرق القواعد وانتهاك الأعراف والتقاليد المستقرّة، ومنها القاعدة التي تقول بأنّه حتى الذين ارتكبوا جرائم من المواطنين لهم حقوق وحرمات ينبغي الحفاظ عليها. فالقانون يقول «المتهم بريء حتى تثبت إدانته» بالطرق القانونية المعروفة، وهو من جهة أخرى، حدّد آليات العقاب ووسائله، وحدّد الجهات المنوط بها إنزال هذا العقاب على من يستحقّه. وجدير ذكره أنّه لم يفلت من هذا الأسلوب الهمجي عناصر المعارضة السياسية الديموقراطية، ووقائع انتهاك أعراض الشباب المنتمين إلى حركة «كفاية» (ذكوراً وإناثاً) وهم بالأحرف الاولى لأسمائهم (م.ش) و(ع.ع ) و(ن. س)، وغيرهم، ما زالت محلّ تحقيق جهات قانونية دولية، بعد أن منع تدخّل السلطة القضاء المصري من إصدار الأحكام الرادعة بحقّ الضبّاط الذين أصدروا الأوامر بارتكابها. وليس غريباً ـــــ والحال هكذا ـــــ ما ردّ به أحد ضبّاط الأمن على صرخة عضو برلمان معارض في مجلس الشعب أثناء انتخابات «مجلس الشورى» الأخيرة، حينما اعتدى عليه بالضرب، ووضع رأس عضو المجلس الموقّر تحت حذائه، فلمّا اعترض الرجل على هذا السلوك الشائن، ذاكراً له، ومذكراً، بأنه نائب في مجلس الشعب، أجابه الضابط بغطرسة: «أنت ومجلس شعبك ورئيسه تحت حذائي».

ثقافة حكم

والخطير في هذا الوضع الشاذ أنه أصبح «ثقافة سائدة» يعاني منها أي مواطن «صالح» مهما بلغ شأنه، في أي تعامل يقوده إلى التّماس بضابط شرطة أو حتى مخبر. ويعرف على سبيل المثال سائقو التاكسي والميكروباصات في كل أنحاء مصر، والبائعون البسطاء الجوالون، وأصحاب المحال، وغيرهم نوعية «المعاملات» الواجبة التي تتعامل بها «الحكومة» مع «الجمهور»، وبالذات مع قطاع الفقراء، «الذين بلا ظهر» من هذا الجمهور، على نحو ما ذكرنا من أمثلة هنا، وهي «غيض من فيض». وليس غريباً في هذا السياق، ما تعجّ به أفلام السينما والأعمال التلفزيونية الدرامية، وكذلك صفحات الجرائد، ومدوّنات الإنترنت من إشارات قويّة لهذه الوقائع. والخطير في الأمر هو نظرة قطاع مهم من الضبّاط لهذه الممارسات باعتبارها صمام الأمان الوحيد لضمان السيطرة، ولـ«حماية» المجتمع: «لولا تعذيب المواطنين في أقسام الشرطة، لأفلت الزمام، ولمزق المجتمع بعضه، حتى لا يبقى منه سوى أشلاء». (نقلاً عن جريدة «البديل» في 1/11/2007 ).

الصعود إلى «العالمية»

والمضحك المبكي في هذه القضية، أنّ النظام المصري الذي فشل في جمع القمامة من شوارع «المحروسة»، وأخفق في علاج جميع مشكلات المجتمع، حاز مرتبة متقدّمة معترفاً بها على مستوى العالم أجمع في مسألة تعذيب المسجونين للحصول على «اعترافاتهم»، حتى أن الكاتب المعروف فهمي هويدي، منحه «كأس العالم في التعذيب»، إذ ليس خافياً دوره في «التعذيب بالوكالة» لعناصر تتهمها الاستخبارات الأميركية وجهات أمنية غربية أخرى بالانتماء إلى جماعات «إرهابية». وهي وكالة تتمّ تحايلاً على قوانين بلدان تلك الجهات التي تجرّم هذا السلوك، حسبما أذاعت المصادر الأميركية والغربية.
* عضو مؤسّس للحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية»

اجزاء ملف "«المعذّبون في الأرض»: يحدث في معتقلات مصر":
الجزء الأول | الجزء الثاني