عامر محسن *
صكّ الباحث جوزف مسعد مصطلح «الانتصار النهائي للاستعمار» للدلالة على المحنة التي تواجه حركات التحرّر الوطني في سعيها ضدّ قوى الاحتلال الأجنبي. لا يمكن فهم مقصد مسعد بدون التفريق بين مفهومين متقاربين: «الاحتلال» بالمعنى الكلاسيكي، من حيث هو هيمنة ماديّة وعسكريّة على كيانات الدول ومقدراتها، و«الاستعمار» بصفته ظاهرة أعمّ، تشكّل هذه الدول من أساسها، تخلق هويّات مواطنيها و«تتخيّل» لها تواريخ وأساطير مؤسّسة.
في حالات كثيرة، يُهزَم «الاحتلال» ويكرَّس «الاستعمار» ظافراً. بل قد يحصل ما هو أشدّ غرابة، إذ إنّ الاحتلال الأجنبي تتمّ هزيمته بأدوات الاستعمار ذاتها: يحتلّ المستعمر الغربي رقعة من الأرض، ويؤسّس عليها دولة ما، فلنعطها اسماً وهميّاً، «موران». يصبح لـ «موران» جيش وإدارات رسمية وعلَم ونشيد وطني. يلقّن تاريخ «موران» في المدارس التي أنشأتها الإدارة الكولونيالية، ويصبح للدولة الفتيّة سرديّة تاريخيّة، وأبطال قوميّون و«آلاف الأعوام من الحضارة». ثمّ تنشأ في «موران» حركة استقلالية، وتطالب «جبهة تحرير موران» بخروج المستعمر، وقد تخوض ضدّه حرباً تحريريّة شرسة.
يسير الشعب الـ«موراني» في تظاهرات حاشدة تطالب بالحرية والاستقلال. وبعد نضال مرير، يُطرَد المستعمر، وتصير «موران» حرّة!
هذه «الحريّة» الإشكاليّة تختزن في ثناياها انتصاراً مستداماً للاستعمار. ففي زوال الاحتلال العسكري تكريس للهويّة السياسيّة التي أنشأها المحتلّ. يدرس عدد متزايد من المؤرّخين سيطرة «الخطاب الاستعماري» «بصفته بُعداً ثالثاً» للهيمنة الكولونيالية، يُضاف إلى الاحتلال العسكري والهيمنة الاقتصادية «غير المباشرة» (التي تكلّمت عنها، مطوّلاً، أنظمة الناصرية والبعث في الستينيات).
هذه «الهيمنة الخطابية» إشكاليّة من نواح عدّة: فهي ظاهرة وخبيئة في آن، لا تملك وجوداً مادياً، لكنّها ترتسم عميقاً في نفوس المواطنين، لا يمثّلها جند ودبّابات، غير أنّ سطوتها تذهب إلى ما هو أبعد. فهي تؤسّس لنظرتنا إلى ذواتنا، وتجعلنا نتماهى مع المخيال الذي رسمه المستعمر لنا، إذ نتبنّاه ونحيله رؤية «أصيلة» لهويتنا وكياننا السياسي.
هذه الآلية تتكرّر اليوم في العراق بشكل حادّ. فمنذ احتلال البلد عام 2003، يتمّ إعادة تشكيل العراق حاضنةَ طوائف، لا دولةً/أمّة، يتمّ استبدال المفهوم المضطرب لـ«الهوية العراقية» مثلما أسّست له الأنظمة المتعاقبة منذ نشأة الدولة في العشرينيات بنظرة طوائفية لانتماء العراقي. فتصبح الطائفة هي المحدّد الأساسي للهويّة السياسيّة للمواطن، وتصير «عراقيّة» العراقي غطاءً يُضاف إلى انتمائه الطائفي، لا منافساً أو مزاحماً للطائفة. تماماً مثلما تشكّل الوعي الطائفي في لبنان، مكمّلاً، بل ومؤسّساً لمفهوم المواطنيّة (وهذا يتجلّى في «القسم» الذي ردّده الراحل جبران تويني، وردّده بعده مئات الآف اللبنانيّين «مسلمين ومسيحيّين،» بحيث يصير «إسلام» أو «مسيحية» المواطن معبراً لـ«لبنانيّته»). وبشكل مشابه، فإن من لازمات الخطاب السياسي «الوطني» في العراق اليوم ترداد ثلاثية «سنّةً وشيعةً وأكراداً».
ولئن كان لانتشار الخطاب الطائفي في العراق موارد عدّة، منها المحلّي ومنها القديم الذي يستعاد في صيغة سياسيّة حديثة، يجدر التركيز على دور الاحتلال الاميركي، الذي يطلع منذ سنوات، بإعادة تشكيل الدولة العراقية، وعلى «التخيّل» الأميركي للعراق بصفته مجموعة طوائف، والطريقة التي تمّت بها ترجمة هذا الاعتقاد في المؤسّسة السياسية العراقية بعد 2003.
عراق بول بريمر
خطّ «حاكم العراق» بول بريمر مقالاً مثيراً في صحيفة «واشنطن بوست» في أيّار الماضي، مدافعاً عن سياسات عهده، ومفنّداً لحجج خصومه ومنتقديه. لكن، بعيداً عن الهدف الأساسي للمقال، فإنّ بريمر قدّم لنا رؤية نادرة لنظرة المحتلّ الأميركي للعراق وللطريقة التي تخيّل بها الساسة الأميركيون البلد من قبل أن تحطّ قواتهم رحالها على أرض الرافدين.
لا يكتفي بريمر بتقديم العراق بوصفه مجموعة طوائف وإثنيّات، وبريمر لا يستعمل تعبير «العراقيّون» إلا في ما ندر، مفضّلاً التكلّم عن «الشيعة» و«السنة» و«الأكراد»، أو الثلاثة معاً. بل إنّه يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، واصفاً عراق صدّام حسين بأنها ساحة حرب طائفيّة، فيها طوائف مضطهدة تحكمها طوائف ظالمة، ويأتي دور الاحتلال الاميركي في رفع الحيف عن الشيعة والأكراد الذين وقعوا تحت الهيمنة «السنيّة» العنفية، وإعادة تشكيل البلد بما يؤمّن العدل بين هذه الطوائف.
ثمّ يأخذ تصوير بول بريمر منحىً سينمائيّاً، واصفاً الجيش العراقي بأنه ثلاثمئة ألف «مجنّد بائس، كلّهم تقريباً من الشيعة، يخدمون تحت 80000 ضابط أكثرهم سنّة»، كذلك فإنّ «المجندين الشيعة يضطهدهم ويعنّفهم، باستمرار، ضبّاطهم السنّة».
لا لزوم هنا لإظهار الأخطاء الفاضحة في تصوير بريمر للدولة العراقية ولبعث صدّام حسين، وإثبات خطأ نظريّة «الدولة السنّيّة» في تفسير عهد صدّام. فبريمر، مثلما هو معروف، لم يدرس العراق في حياته، ولا يعرف اللغة العربية، ولم يتسلّم مهمات في الشرق الأوسط قبل تعيينه حاكماً على البلد المحتلّ. بل، وبحسب مقرّبين من بريمر، فإنّ الحاكم الأميركي تمنّع عن قراءة المراجع المتوافرة عن تاريخ العراق ومجتمعه قبل قيامه بمهماته وأثناء ذلك.
لكنّ مقال بريمر يجب أن يُنظر إليه بوصفه وثيقة تؤرّخ لنظرة الاستعمار الأميركي للعراق، والطريقة التي «تخيّل» بها الأميركيون المجتمع العراقي، وبنوا على أساسها مؤسّسات البلد وتوازناته السياسيّة (وقد يسأل، هنا، أهل سامرّاء «السّنّة» وعشائر الدليمي عن مقدار تحيّز دولة صدّام لمواطنيها العرب السّنّة).
لكنّ رؤيا بول بريمر، بغضّ النّظر عن انعدام صحّتها، تستحيل واقعاً في العراق، حين تُبنى مؤسسات «العراق الجديد» على أساس تلك النظرة المجتزأة. وفيما مخيّلة بول بريمر ترسم واقع العراق ومستقبله، فإنّ ماضي البلد وتاريخه، يكتبان، بالترافق، من الزاوية نفسها.
صدّام حسين البعث، صدّام حسين السّنيّ
نظام البعث كان، مثلما قال سمير أمين في مقالة أخيرة له، متعدّد الأوجه. ومن الضروري، لمستقبل العراق، أن تتمّ دراسة النظام وإرثه موضوعيّاً، لا أن نتوقّف عند إدانة بطش النظام، أو وصمه بالفاشيّة (قارن بريمر صدّام مراراً بهتلر، لكنّ المقاربة لم تتأتّ عن تحليل ايديولوجيّ معمّق، بل لأنّ النظامين ـــــ على حد قول بريمر ـــــ تشابها بامتلاكهما جيشاً وجهاز استخبارات!).
بحسب سمير أمين، فإنّ نظام البعث حمل النّظرة «الحداثيّة الراديكاليّة» التي اختزنتها الطبقات الوسطى العربية في القرن الماضي. لكنّ «حداثة» البعث، مثل حداثة النّظام الناصري، لم تنهل من تراث الديموقراطية الليبراليّة، بل كانت، على حدّ قول الكاتب، «أكثر تأثّراً بالثورة الفرنسيّة، والثورة الروسيّة والشيوعيّة ... من نموذج برلمانية ويستمنستر» البريطاني. هذه الأنظمة تشاركت بسلوك ديكتاتوري، لا يؤمن بالشّرعيّة الشعبيّة، ولا يعامل المعارضين بقفّازات حريريّة، لكنّها، في ذات الوقت، تؤمن بتغيير «من فوق»، تطلع به الطبقة الحاكمة، وتنحو لتحديث متسارع للدولة والمجتمع. استعمل نظام البعث العنف والإجرام بلا اعتذاريّات، لم يألُ جهداً في سحق المعارضة، من حيثما جاءت. لكنّ مشروع البعث كان أيضاً مشروعاً علمانيّاً ـــــ بتواضع، يضيف سمير أمين، وقد اضمحلّت علمانيّته إلى حدّ الزوال في سنوات التسعينيات ـــــ و لا يستنكف عن فرض نسخته من «الحداثة» بالقوّة. وفي مخطّطات صدّام حسين ـــــ الفاشلة ـــــ لـ«الهندسة الاجتماعية» مثال ساطع: حاول صدّام «خلط» العراقيين بالقوّة، رحّل الأكراد إلى الجنوب، ووطّن الشيعة ـــــ بالإجبار ـــــ في مناطق الشمال، فيما خلق نخبة تكنوقراطيّة موالية للنظام ـــــ من مختلف الطوائف ـــــ في بغداد. وهذه «النخبة» المتعلّمة تتوزّع بأغلبها اليوم بين المنافي العربيّة
والأجنبيّة.
منذ إعدام صدّام، قبل ما يقارب العام، نشهد انبثاق رثائيّة أوريّة جديدة للديكتاتور الرّاحل. فمنذ علّق الرئيس السابق على المشنقة، بدأت في ما يسمّى «الشارع السّنّي العربي» عمليّة «إعادة تأهيل» للديكتاتور، يتمّ خلالها تناسي جرائمه، أو تبريرها، و«الترحّم» على النموّ والاستقرار الذي شهده العراق في عهده ـــــ خاصّة من خلال مقارنة الماضي البعثي بأحوال «العراق الجديد».
تعزّز عمليّة «إعادة التأهيل» هذه نزعة لدى شعوبنا تستنكف عن انتقاد الأموات، وتستنكر تعداد مثالب الزعماء الراحلين، بل تدعونا إلى «ذكر محاسنهم» أيّاً كانوا. كتبت الكثير من القصائد في رثاء الديكتاتور، بل امتلأت مواقع الانترنت بأغاني البروباغاندا التي كان يبثّها الإعلام العراقي في مدح رأس النّظام. مع فارق أن هذه الأناشيد، التي كانت تردّد بببغائية طقسيّة، صارت جالباً للنوستالجيا وصار تكرارها «فعل مقاومة» ضدّ من احتلّ العراق وقتل رئيسه.
من غرائب الأمور أن الترحّم على الرئيس «الشهيد» كثيراً ما يأخذ صيغة طائفيّة. فنجد المقالات التي تمجّد صدّام متجاورةً مع الدعاوى الوهابيّة والسنيّة المتطرفة. وللحقّ، فإنّ هذه النزعة ابتدأت منذ لحظة الإعدام، حيث اقتصر الاحتجاج على المظاهر والتجاوزات التي رافقت إعدام صدّام على الحركات السنيّة الطائفيّة (مثل جبهة التوافق وهيئة علماء المسلمين) التي تعاملت مع الحدث كأنها من «ورثة» الرئيس السابق، وكأنّما إعدام صدّام بتلك الطريقة المهينة كان صفعة موجّهة لسنّة العراق حصراً.
بمعنى آخر، فإنّ تخريج صدّام، بعد وفاته، بطلاً سنيّاً لا يتوافق مع تاريخ النّظام البعثي وايديولوجيّته بقدر ما يتناسب مع السياسات الطائفيّة المحدثة في عراق الاحتلال. وإنّ الجموع التي تؤلّه صدّام حامياً للعرب السنّة، لا تؤطّر «مقاومتها» للاحتلال الأميركي ونتائجه عبر الدّفاع عن دولة البعث نموذجاً تحديثيّاً مركزيّاً في وجه مخطّطات أميركا وحلفائها لمستقبل العراق، بل عبر استعارة النّظرة الاميركية للعراق ساحةَ نزاع طائفيّ، يكون فيها صدّام حسين رمزاً لغلبة العصبيّة السنيّة على سائر عناصر البلد.
هكذا إذاً تكتمل الدّائرة، ويستحيل استعمار الولايات المتّحدة للعراق كامل العناصر، فموالوه يدافعون بشراسة عن النظام الطائفي الذي أسّست له سنوات الاحتلال، و«معارضوه» يوظّفون الرؤيا الطّائفيّة ذاتها، وإن بشكل معكوس، «بترحّمهم» على «دولة سنيّة» لم توجد إلا في مخيلة بول بريمر والأحزاب العراقيّة الطائفيّة (الشّيعيّة منها والسنيّة). من مظاهر نجاح نظام ما، أن يتمكّن هذا النّظام من إنتاج موالاته ومعارضته في آن، وهذا هو الحاصل اليوم في العراق.
طوائف الاستعمار
منذ أيّام، وجّه الزعيم الشّيعيّ عبد العزيز الحكيم (الذي يطالب، عبر حزبه، بإنشاء دولة فدرالية في جنوب العراق على شاكلة إقليم كردستان) تحيّة للمملكة العربية السعودية، لدورها في إقناع «أطراف سنية» بالانضمام لما يسمّى «مجالس الصّحوة» التي تسيطر اليوم على محافظات عدّة بدعم من الجيش الأميركي والحكومة العراقيّة. وهنا تتبدّى إحدى مفارقات «العراق الجديد»، فالقوى الطّائفية السنية التي ألّهت صدام، حيّاً وميتاً (سمّى الزعيم السابق لـ«صحوة الأنبار» أحمد أبو ريشة ابنه البكر على اسم الديكتاتور السابق) ترى في المملكة ـــــ التي حاربت صدّام وحاربها ـــــ حليفاً طبيعياً. كذلك فإن القوى ذاتها تتقارب وتتحالف مع الأحزاب الطائفيّة على الجانب الآخر. إذ إنّنا نشهد منذ أشهر غزلاً متبادلاً بين مجالس الصحوة وقادتها، من ناحية، وبين أحزاب الحكيم والمالكي من جهة أخرى.
ولئن كانت أحزاب المالكي والحكيم مستعدّة، بل ومتحمّسة، للتحالف السياسي مع «الصّحوة» الطائفيّة، فإنّ عداءها لأجندة البعث «التحديثيّة» لا هوادة فيه: ففي بروباغاندا الحكومة العراقية اليوم، ما زالت العروبة مساوية للفاشيّة، وأي كلام عن دور الدولة المركزيّة هو دعوة للديكتاتورية، ولا حاجة لاستطلاع رأي هذه الحركات الدينية بشأن العلمانية. فيما الطائفيّات، على أشكالها وأنواعها، هي حليف مرحّب به، وليس في الأمر لغز، فكما في لبنان، فإنّ القوى الطائفية تتخندق معاً وتتوحّد في مواجهة «الآخر» الذي يتبنّى مشروعاً، أو نظرة للهويّة، فيه تهديد لأسس النظام الطائفي.
يتكلّم العديد من الزّعماء العراقيّين اليوم عن «إنهاء الاحتلال»، ويترقّب العديد من مواطني البلد المحتلّ اليوم الذي تخرج فيه قوى الاحتلال من بلاد الرّافدين. إلّا أنّ ما حصل منذ عام 2003 يجب أن ينبّهنا لأخطر نتائج المشروع الأميركي في العراق: ما يحصل في العراق اليوم ليس احتلالاً، بل هو استعمار، بكلّ ما للكلمة من معنى. وإنّ خروج الجيوش الأميركيّة من العراق لن يعني، بحال من الأحوال، نهاية هذا المشروع الاستعماري بأبعاده المختلفة. على العكس، فإن تبنّي العراقيّين لنظرة المحتلّ اليهم، ستشكّل ـــــ حتى لو خرج الأميركيّون ـــــ «النّصر النّهائي للمستعمر».
* طالب دراسات عليا في جامعة بيركلي