أحمد بهاء الدين شعبان *
الأكثر غرابة في نوع التعذيب السائد في معتقلات مصر والشهادات التي تصف هذا التعذيب، هو نوع استجابة النظام ووزارة الداخلية لهذا السيل من الأخبار المؤسية والانتهاكات المروِّعة، على طريقة « أدن من طين وأخرى من عجين»، وبضعة شعارات جوفاء لا تقدّم ولا تؤخّر. ولعلّ هذا الأمر هو ما جعل البعض ـــــ عن حقّ ـــــ يرى في ما يحدث في أقسام الشرطة وسجونها نوعاً من السلوك المقصود المخطّط، هدفه ترويع المعارضين وإرهاب الناس، وإشاعة مناخ يكبت ردود الأفعال، ويفرض الصمت من الخوف والتوجّس وتوقّع العقاب، في مرحلة حرجة، تقتضي تكميم الأفواه، وشلّ الحركة، لإمرار مخطّط «توريث» النجل جمال مبارك.
فما دامت السلطة عاجزة عن السيطرة على الوضع بقوة الإقناع، فليكن هذا الأمر بالإقناع بالقوة. ألم يقل الحجّاج بن يوسف الثقفي ذات يوم «من تكلّم قتلناه... ومن سكت مات بدائه غمّاًَ». وإلا فما تفسير هذه الموجة البشعة من التعذيب التي تجتاح مصر الآن، دون أي محاولة رسميّة للسيطرة عليها؟
فبحسب محمد زارع، مدير المنظّمة العربية للإصلاح الجنائي، التعذيب في مصر لم يعد ذلك النوع من الضرب والانتهاكات وحسب، إنما هو «التعذيب الذي يفضي إلى موت، وهناك 1124 قضية تعذيب تنظر فيها المحاكم، وتمّ الحكم فيها جميعاً بالإدانة، وصرفت وزارة الداخلية تعويضات بلغت خمسة ملايين جنيه».
وقد أرجع زارع الانتهاكات والتعذيب إلى قانون الطوارئ الذي أعطى رجال الأمن صلاحيات كبيرة، وأسهم في التجاوزات من جانب الأمن، وما دام العبء المادّي لهذه الممارسات تتحمّله الدولة لا الضبّاط (لاحظ تقرير لجنة حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة 2002 عن عدم معاقبة المتّهمين بالتعذيب في أغلب الأحيان)، فهذا معناه إسباغ الحماية على مرتكبي هذه الجرائم، الأمر الذي يشجّعهم على الاستمرار في ممارستها، ويعطيهم الضوء الأخضر بأنهم في مأمن من أي عقاب.

طوارئ إلى الأبد!

و«حالة الطوارئ» التي أشار إليها مدير «المنظمة العربية للإصلاح الجنائي» باعتبارها السبب الأساس للانتهاكات البشعة، كادت أن تكون هي الوضع الطبيعي، الدائم، الممتدّ في مصر طوال القرن الماضي كله، إلا قليلاً، وهي حالة بالغة الندرة على مستوى العالم كلّه. إن دوام حالة الطوارئ على مدى 68 عاماً من فترة الـ 82 عاماً الماضية جعلها تبدو وضعاً طبيعياً، وغيرها هو الاستثناء. ولذا كان من المنطقي أن يكون شعار جماعة «شباب من أجل التغيير» التي تكونت بعيد ميلاد حركة «كفايه»: «أجيال ولدت في ظل حالة الطوارئ»، كما أنه كان من المنطقي في ظلّ هذه الأحوال، أن «تتغوّل» سلطة الأجهزة القمعية العديدة، وأن تتقزم ـــــ بالتبعيّة ـــــ وضعية المجتمع المدني بكل هيئاته ومؤسّساته ورموزه وثقافته ومجالات نشاطه، وأن يصبح «الباشوات الجدد» من ضبّاط الداخلية، هم الحكام المستبدين الذين لا يردعهم قانون ولا يخشون التعرض بأي صورة للمساءلة أو المحاسبة. وفي ظلّ هذه الحالة الاستثنائية الممتدّة، منح جهاز الأمن صلاحيات مفتوحة ضدّ خصوم النظام، وبالذات في مرحلة الصدام المسلّح مع تنظيمات العنف الأصولي، واستبيحت كل الحدود في معارك «الأرض المحروقة» للرد على عنف هذه الجماعات حتى تمّ استئصال شأفتها.
غير أن أجهزة الأمن لم تتراجع عمّا اكتسبته من هذه الصلاحيات، وتعاطت مع ما انتزعته من تجاوزات باعتبارها حقوقاً ثابتة في التعامل مع كافة الأفرقاء السياسيين الذين يناضلون سلمياً من أجل التغيير الديموقراطي للأوضاع المتردّية على كل المستويات، (مثلما حدث في التعامل مع المتظاهرين من نشطاء حركة «كفاية»، وأيمن نور زعيم «حزب الغد»، وأعضاء جماعة «الأخوان»، أو مع أبناء الشعب العاديين.

المسيرة مستمرة

حالات التعذيب والاحتجاز غير القانوني الممتد للمواطنين العاديين، وتعرضهم المستمر للإهانة الفظة والانتهاك البدني والنفسي، أو للتعذيب الشديد، والاعتقال المتكرر وطويل الأمد الذي طال مئات الأشخاص (بعضهم يعاد اعتقاله لسنوات طويلة فور إفراج المحكمة عنه لعدم جدية أسباب اعتقاله)، لفتت انتباه الهيئات الحقوقية الدولية بشدّة، فانتقد تقرير «لجنة حقوق الإنسان» الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2006، ظاهرة «العقاب الجماعي» (وخاصة للمواطنين من بدو سيناء)، والاعتقالات العشوائية، واحتجاز الرهائن وإطلاق القنابل المسيلة للدموع، واللجوء إلى «الحملات التأديبية»، وأدان ظاهرة الاختفاء القسري، لافتاً إلى تزايد حالاتها، والإجراءات غير القانونية التي ترافق أعمال القبض والاعتقال، واحتجاز الأشخاص في أماكن حبس غير قانونية لا تخضع لرقابة وإشراف النيابة العامة. ولفت إلى تردّي الأوضاع الصحية والمعيشية داخل السجون المصرية، وحرمان المسجونين من حقوقهم الإنسانية المقررة، وكذلك ما تعرضت له «المنظومة الكلية لحرية الرأي والتعبير» في مصر، خلال عام 2006 من انتهاكات، عكس بعضها الموقف المتأصّل للسلطات والمعادي بطبعه لحق المواطنين في اعتناق الآراء أو التعبير عنها بصورة سلمية». (انظر عرضاً للتقرير بقلم وائل علي، المصري اليوم 5/9/ 2007) .

ميراث مبارك

وكان طبيعيّاً والأمر على هذا النحو، أن يتضاءل ـــــ تدريجياً ـــــ بعد 26 عاماً من حكم الرئيس حسنى مبارك، حجم الإنفاق على الصحة والتعليم والدعم الاجتماعي وباقي الخدمات الأساسية لنحو ثمانين مليوناً من المصريّين، معظمهم يعيش على تخوم الفقر، مقابل النمو السرطاني للموازنة المخصّصة لتدريب قوات الأمن ومضاعفة أجهزتها وأعدادها (تعداد عناصر جهاز الأمن المركزي وحده، كما نشر أخيراً، مليون وأربعمائة ألف فرد!)، يضيف إليهم الباحث المصري عبد الخالق فاروق، ما بين «500 و600 ألف من المرشدين والجواسيس والقابعين في كل القطاعات الجنائية والسياسية، والذين ينتشرون في الأحياء السكنية والمصانع والنقابات العمالية والمهنية، والأحزاب السياسية، وبين الصحافيّين ، وأساتذة الجامعات والمدرّسين، وغيرهم من الفئات، وبحيث يؤلفون شبكة هائلة لجمع المعلومات ونقل الأخبار»، هذا فضلاً عن ضبّاط الشرطة العاديّين في الحراسات والخدمات العامّة، والعاملين في وزارة الداخلية من المدنيين والعسكريين، الذين يقدّرهم الباحث المذكور بثمانمائة ألف فرد، (جريدة «الكرامة» 25/7/2006 ). أي أنّنا بإزاء قوة بطش ديناصورية عددها يقترب من ثلاثة ملايين عنصر، الأمر الذي يعني أن جهاز الأمن المصري تضخّم بشكل غير مسبوق.
ومن المنطقي في ظلّ هذا الوضع، كما يشير عبد الخالق فاروق، أن تقفز مصروفات هذا الجهاز من مليون وسبعمائة ألف جنيه عام 1951، إلى نحو عشرة مليارات جنيه في موازنة 2006 ـــــ 2007، بالإضافة إلى 20 مليار جنيه أخرى مخصصة لـ«جهات حساسة» كما يقول الباحث.

تدمير الحياة السياسية

ولا يمكن إعفاء هذا التغوّل الأمني الذي سيطر على أحوال البلاد طوال العقود الماضية، من مسؤولية تدهور الأحوال السياسية من جهة، وصعود الظاهرة الأصولية من جهة أخرى. فالتربص الأمني بكافة القوى السياسية، حتى الشرعية منها (أي تلك التي وافقت السلطة على منحها رخصة)، ومطاردة كلّ أشكال النشاط الحزبي، حتى العادي أو البسيط، وحبس هذه الأحزاب، بقياداتها وكوادرها، داخل مقارها، ومنع احتكاكها بالشارع، الذي قصر التعامل معه على جهاز الأمن والمؤسّسات البيروقراطية للنظام، والضربات البوليسية التي توجه لعناصرها وقياداتها إذا فكّرت في تجاوز الخطوط الحمراء الموضوعة، والتزييف المستمر والمتعمّد للانتخابات، ومصادرة العمل النقابي وأنشطة المجتمع المدني، والتدخّل في الرقابة على أعمال الصحف ومواقع شبكات الانترنت وكتابات المدونين، واعتقال «المشاغبين» منهم... كل ذلك أدّى إلى رفع كلفة العمل السياسي إلى الحدّ الذي جعل الأغلبية العظمى من المواطنين تدير له الظهر، مؤثرة الأمان والسلامة.
كما أنّ تجريف الوعي السياسي للأجيال الجديدة، وتركها عرضة للاجتياح من الفكر المتطرّف والعدمي، أدى إلى شيخوخة الدولة، وانعدام الحراك الجيلي، وتجميد الدماء في عروق النظام، واختناق الصلة بينه وبين كافة قطاعات المجتمع الحيّة.

بركان الغضب

تتجمّع عناصر النقمة والغضب على السلطة في نفوس المصريّين، يغذّيها تدهور شامل لأوضاع المواطن المصري، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. حتى إن آخر استطلاع للرأي جرى في 47 دولة، أجرته مؤسّسة أميركية (هي مؤسّسة «بيو بوول» الشهيرة)، قد توصل إلى نتيجة ذات دلالة مفادها أن «المصريين هم أكثر شعوب العالم سخطاً على حكومتهم، بنسبة 87 في المئة»، (جريدة « المصري اليوم» ، 26/7/2007). ويفسّر هذا الوضع جانباً من الأسباب التي جعلت عام 2007 هو عام انتفاضات الشارع المصري، بعمّاله وفلّاحيه ومثقّفيه ومهنيّيه وسكّان أحيائه العشوائية أيضاً، حتى بلغ عدد التحرّكات الاحتجاجية في الشهور العشرة الماضية أكثر من خمسمائة إضراب واعتصام وتظاهرة وقطع طريق واصطدام عنيف بجحافل قوات الأمن.

يا عم الضابط انت كذّاب!

هكذا، وبعد ما تقدّم، ليس من المستغرب أن يعبّر شاعر العامية المعروف عبد الرحمن الأبنودي عن مشاعر المصريين تجاه ضباط الأمن، فيقول:
«يا عم الضابط انت كداب واللي بعتك كذّاب
مش بالذل هشوفكم غير انتو كلاب الحاكم، واحنا الطير
انتو لصوص القوت، واحنا بنبني بيوت
إحنا الصوت ساعة ما تحبّوا الدنيا سكوت
إحنا شعبين شعبين شعبين
إحنا ولاد الكلب الشعب وطريقه الصعب
والضرب ببوز الجزمة وبسن الكعب
والموت في الحرب لكن انتو خلقكم سيد الملك
جاهزين للملك إيدكم نعمت
من طول ما بتقتل وبتقتل ليالينا الحُـلك!»
* عضو مؤسّس للحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية»

اجزاء ملف "«المعذّبون في الأرض»: يحدث في معتقلات مصر":
الجزء الأول | الجزء الثاني