نسيـم ضاهر *
تنتصب عوامل الجغرافيا في طليعة المؤثرات على حياة الأمم ومصائرها. من يقرأ في مُدوّنات بلدان الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط، يعلم يقيناً صوابية هذا القول وماهيّة الأحداث التي ارتبطت بنشوء الامبرطوريات وزوالها. كما يتبيّن له أن خريطة المنطقة السياسية، الدولتية والانتمائيّة، تبدّلت مراراً تبعاً لتمدّد الأقوياء في الجوار، ومآل صراعاتهم.
بقدر ما تفسح الجغرافيا في إيقاظ الشهية الامبرطورية، وتهيِّئ لها الممرّ والمستقرّ، فهي أيضاً تحطّ من قدرات الإمساك وديمومة البقاء، وتقيم الموانع الطبيعية، الحامية والحاضنة للكيانات الضعيفة، والدفاعات على التخوم الفاصلة في الأقاصي بمثابة أرض النزاع بين المتزاحمين على بسط النفوذ والسيادة. تشهد صحراء سيناء وجبال لبنان وممرات خيبر والترموفيل ومضائق الدردنيل، بين أخرى، على تعثر الحملات وصعوبة التعقب أو إنزال الهزيمة كاملة واستتباب الأمر للغزاة والفاتحين في حصون التمرّد ومنابت المقاومات. وقريباً من يومنا، ما وادي الحجير إلاّ ذلك المثل الساطع عن ائتلاف البشر والحجر، وخدمة الطبيعة عند احتضان ملاذها إرادة القتال.
تلاشى دور الجغرافيا كعنصر له ألف حساب في اليسر والعُسر، الاقتصادي والعسكري، تبعاً لتطور التقنيات والتجهيز بالعتاد والسلاح الحديث. لكن مفاعيله صمدت ولم تغب عن المعادلة، شأن حواصل التحوّلات. وفي مجالات التواصل والمجاورة والترسيمات الإقليمية، استمرت الجغرافيا في صُلب المحدِّدات، تلقي بثقل معطياتها وتؤخذ في اعتبار السياسة والأحلاف وتبادل المنافع والمؤازرة المباشرة أو الخصام. على هذا المعنى تلتصق الجغرافيا بمفهوم الفضاء الثقافي، وتبرز تكاوين اللوحة الإقليمية ومساحات اللقاء والتداخل، وفي الوقت ذاته، قد تؤول الى مصدر تنابذ وشرط نزاع.
يستدعي التنوّع، على خلفية تعدد الكيانات واختلاف المصالح، ضمن رقعة جغرافية معينة، إدارة حكيمة من جميع الأطراف، تقرّ بالتناقضات وتستوعب تداعياتها المحتملة، للحفاظ على قدر من التجانس وعدم إضاعة فرص التعاون والتنسيق في حقول واختصاصات واهتمامات، على غرار الكتلة الشرق أوسطية داخل منظمة البلدان المُنتجة للنفط، حيثُ أسفر مسار قرون حافلة بالتعرّجات، عن مخاض أنجب معالم دولتية تعوزها العافية المجتمعية الآيلة الى انصهار ومواطنة يعلو تعريفها وجامعها على سائِر المكوِّنات، باتت السيادية تصطدم باستخدامات الروابط الأهلية والعقائدية، والعُرى القبلية والإثنية والمذهبية المتنوعة، العابرة للحدود، في محاولات دائمة لتجييرها وتوظيفها على وجه اكتساب المواقع والتحكم عن بُعْد.
خلافاً للمصطلح الوفاقي ودواعي الاستقرار، تسود المنطقة مناخات التجاذب والتدخل، الخفي أو المعلن، المتفلت من القيود والضوابط المعهودة. وإذ يعزو أصحابه اندفاعاتهم الى تصليب الممانعة ومنازلة الهيمنة الأميركية والصلف الإسرائيلي، فإنهم يعيدون إنتاج ممارسات قهرية ويعمدون الى سلوكيات ترهق كاهل المجتمعات المطلوب حمايتها وتمزِّق نسيجها وتهدد وحدتها الوطنية. ولئن كانت الجغرافيا معيناً في هذا المصب، فإن للجاري أكثر من قرابة ونسب مع سابق طموحات وأطماع، لا تبدِّدهُ التطمينات الأخوية، وله من طبائع الاستبداد وأساليبه ما يصعب إخفاؤه بساتِر المروءة والدعم المجرد لوجه الله. لكن جديد الإسناد غلاف محوري الملمح، رسالي خلاصي الطابع، يتشابك في ظلاله الغيبي الديني والقوموي الملحق، وتتصالح من خلاله نقائض الأيديولوجيات، ممتدة الى قوس عريض لا يجد حرجاً في مغازلة الأصوليات الجهادية وإدراج جماعات منها في معسكر المناهضة ودائرة الأحلاف.
إن الاقتباس من صنائع الاحتلال ونزعة الهيمنة، حافل بمُسبِّبات الفرقة والتقاتل الداخلي. يخضع كل استنساخ لحكم الطبعة الأصليّة ويشكو من عوراتها وعيوب مآربها. ومهما ارتئي من توليف تحرّري ومرجعية تراثيّة أصيلة، فذلك لا ينفي الازدراء بالمعطى الإرادي وحصانة الدول، واقتحام حقلي الفرد والجماعة الوطنية من خارج الحدود ونطاق المؤسسات. يُفيد راهن الصورة باجتياز الخطوط الفاصلة بين التناغم السياسي (أو تقاطع الرؤى والتنسيق العملاني) والانتظام العضوي، ما يولي فرقاً ومنظمات وأحزاباً أمر التصرف الأحادي المنفرد بعناوين الحرب والسلم والعلاقات الدولية والقضايا المصيرية، على سبيل التخصيص والوكالة الحصرية المسبغة على المُنتفِع بها من مركز القرار.
يُستدلّ من شواهد التاريخ، القديم والحديث، محال المواءمة النسقية بين البرّاني والجوَّاني، والتطابق المطلق في السياسات، في الأخص بين أطراف متفاوتة المواقع، غير متكافئة الموارد والقدرات. في زمن التسويات والمخارج، ينقلب التضامن الأممي أو الجبهوي، من رافعة ومدد وعون، إلى لاجِمٍ وضاغط على مسعى المُنتسِب في بلورة سياسته المستقلة وكيفية ترجمتها في اللحظة، وحماية مصالحه. هكذا عرَّتْ اتفاقيات يالطا المقاومة اليونانية، وسدّت أفق الانتصار أمامها، لتنتهي، رغم بسالتها، الى عزل وتنكيلٍ بها ولجوء الى المنافي. كما خذلت الحركة الثورية في أميركا اللاتينية تشي غيفارا وتركته يلقى قدره المحتوم وحيداً مُغامِراً في غابات بوليفيا، بعدما يئس من شعارية التريلاترال (الثلاثية القارية) وانهارت حملته المتواضعة التي حطَّتْ في الكونغو بغية استنهاض أفريقيا. وخلصت فلول الأفغان العرب إلى العُنف العشوائي والجهادية الانتحارية عقب هجرة أفغانستان ومطاردتها من قبل مهندسي منظومتها وحماتها ذات يوم. الأدهى، أن نضوج الحلول التسووية له دوماً محمول تنازل وناتج تضحية، يبدأ بسحب الغطاء عن الطرف الثانوي المعني، وينتهي الى إلباسه مسؤولية إعاقة المفاوضات ورفض الواقعية والتأقلم مع الظروف المُستجدة والداعية الى تقاسم النفوذ وحظر التشويش على التفاهمات.
لا تقف أحكام التاريخ على التذكير بالانعطافات الحادة وما تغلقه من ملفات وتخلفه من أزمات وجوديّة بعامل التخلي التفاضلي والإسقاط من المسلمات. فهي تشي لزوماً بضرورة إيلاء موازين القوى كامل الاهتمام، في محدداتها وعناصرها كافة، في حاضرها ومخزونها ومتغيرها الموصول بالطاقات التعبوية والقدرات التقنية والمادية. أي إن القراءة الظرفية، على راهنيتها، ربما تقود الى رهانات خاطئة مردّها النظرة الجامدة والتعويل على عابر انتكاسات وكبوات في الصفوف المقابلة، المشفوع بتعظيم جبهة الحلفاء والارتياح الى مناعتها المديدة. إلى ذلك، يخشى المضي في اعتبار الجغرافيا وفق معايير الماضي، والتشديد على التفوّق الميداني الحاسم الذي تؤهِّل له المجاورة، وتمنح المتمتع بها حرية الحركة والمناورة على نحو المبالغة والإفراط في التفاؤل المبني على مقدِّمات مضخمة تتعامل معها وتجابهها وسائط التكنولوجيا المتقدمة. فعلى سبيل المثال، ارتكب قادة اليابان خطأً استراتيجياً قاتلاً، إبّان الحرب العالمية الثانية، لاعتقادهم أن واقع الجغرافيا وعامل المسافة، درع وقاية الامبرطورية من هجوم معاكِس، وأن المحيط الهادئ مانع طبيعي يلغي فرضية الرد الموجع وإمكان الهزيمة في مسرح عمليات شرق آسيا البعيد عن متناول الأعداء.
نأتي الى موضوعة مركزية لطالما أفسدت العديد من الحسابات على المستوى الاستراتيجي، وحددت وجهة الغلبة على المدى البعيد. فعلى الرغم من التقلبات والانتكاسات المرحلية، وربما الخسارة المحدودة في نزاعات متفرقة في المكان والزمان، تسجل وقائع التاريخ الحديث والمعاصر قابلية النهج الديموقراطي على الاستمرار، واستعادته زمام المبادرة، بالمعنى التاريخي للكلمة. وفي ما يعود للنزاعات المسلّحة والأحلاف، مُنيَ الجانب الشمولي بما لم يتوقعه من جبه وردّ فعل، ولعب عامل الوقت والزمن لغير مصلحته مُنهكاً بنيانه واقتصاده، مُطيحاً آماله وتقديراته. فلا يظنّ أن تكديس ترسانة أسلحة واستعراضها كفيلان في ذاتهما بجلب الانتصارات وإنهاء المسألة الصراعية بانسحاب الخصم، لأنهما يستدرجان تصميماً أفعل وأشدّ إيلاماً، لا يُستهان بماكينته وقدرتها على إحداث الدمار.
إن من مصلحة شعوب المنطقة وحكامها التمعّن في مخاطر بقاء الجمر تحت الرماد والنفخ في أبواق دعوات المنازلة وطلب الهزيمة الماحقة للأشرار. محك القيادة الحكيمة ودليلها، في مجانبة رسم السيناريوهات المُظلمة، والبناء على الحقوق المشروعة، نقطة وصول وبوصلة مسار لا ورقة ستر أو مادة تحوير نزاع. وما الفشل إلاّ وليد الاستهتار بالأحوال والتداعيات، وإيهام البسطاء، بأن عوامل الجغرافيا أمنع وأمضى من أحكام التاريخ ودروسه، تصنع الحقائق والمعجزات العارية من المضمون الصريح والمحمول الواقعي، نزولاً عند رؤيوية خلاصية وطموح ريادة مكتوم.
* كاتب لبناني