طارق الكحلاوي *
يتعرض رئيس تحرير مجلة «الآداب» البيروتية، سماح إدريس، لملاحقة قضائية بسبب رأي أبداه في أحد الأعداد الأخيرة لـ«الآداب». ففي افتتاحية عدد أيار (مايو)/حزيران (جوان) 2007 بعنوان «نقد الوعي النقدي: كردستان ـــــ العراق نموذجاً»، كتب إدريس تحليلاً عن فئة من المثقفين الذين عرفوا بعض الازدهار إثر غزو العراق. وهي فئة من «التقدميين» ذوي الأصول اليسارية الذين يتميزون راهناً بالاستهلاك الشعاراتي المفرط لعناوين مثل «الديموقراطية التقدمية» و«الثقافة الحقوقية» و«الحرية ضد الظلامية والانغلاق»، في الوقت الذي يمكنهم فيه أن يعلنوا، بكل الجدية الممكنة، أن ما يجري في العراق إثر نيسان/أفريل 2003 على وجه الخصوص هو «مسار دمقرطة وحرية». ومن بين أبرز هؤلاء «المثقف التقدمي» السيد فخري كريم، السكرتير الأسبق والعضو القيادي في «الحزب الشيوعي العراقي» وصاحب المؤسسة الإعلامية «دار المدى».
لكن ما الذي جعل السيد فخري كريم و«تقدّميته» تحديداً موضوع افتتاحية في مجلة «الآداب»؟
كانت مناسبة افتتاحية إدريس التعليق على «مهرجان المدى» الذي ضم في مدينة أربيل في ربيع 2007 مئات «المثقفين» العرب بدعوة من «حكومة إقليم كردستان»، بل ومن «السيد الرئيس» جلال الطالباني شخصياً، ومن «مستشاره للثقافة» السيد فخري كريم. كانت تعليقات بعض «المثقفين» الدعائية الفجة والأشبه بالفضيحة الفكرية (منها مثلاً قول أحد الشعراء من دون أي تردد أو حياء: «إنني سعيد الآن لأنني في مؤتمر حر على أرض حرة») هي ما استفزّ على ما يبدو إدريس، بل استفز كتّاباً لا يبتعدون كثيراً عن رؤى فخري كريم نفسه (انظر: محمد هاشم «مهرجان المدى الثقافي، لماذا في أربيل؟» موقع «إيلاف» 24 نيسان/ أفريل 2007).
أكثر ما هال إدريس «كسل» المدعوّين إلى أربيل، إذ امتنعوا عن رؤية البديهيات نفسها. ومن بين هذه البديهيات التي تُبطل الاعتقادَ بالتحديد أننا إزاء «مؤتمر حر» و«أرض حرة»، إلى جانب مجموعة من المعطيات ليست أقلها الحريات الكثيرة المهدورة في كردستان العراق حسب تقارير أممية، التاريخُ السياسيُّ المثير للجدل لمنظِّم المؤتمر السيد فخري كريم. فقد أشار إدريس إلى «اختناق» الإنترنت بمعطيات لا تنتهي حول ما يحوم حول الرجل من شكوك قوية وفي كل الاتجاهات. ولم يشر إدريس إلى مصادر هذه الشكوك، لا لعدم وجودها على الأرجح، بل لكثرتها وصعوبة حشرها في قسم الهوامش. سأختار هنا بعضها، ولن أحيل على مواقع أو مصادر تكنّ العداء الفصيح للسيد كريم أو «الحزب الشيوعي العراقي» (الذي كان من أكبر الأحزاب الشيوعية العربية، وخاصة أيام «الرفيق فهد» أشهر الشيوعيين العرب على الإطلاق).
أشير مثلاً إلى مذكرات الشيوعي العراقي أبو جلال (شوكت خزندار) الصادرة سنة 2005، ونشر موقع «الحوار المتمدن» أو «رزقار» (الذي أصبح يسمى «أحوار» وينشر بالمناسبة مقالات فخري كريم) تلخيصاً مطوّلاً لها يحتوي معطيات تتضمن دور كريم بوصفه «رئيس الجهاز الأمني» للحزب (!!). في المقال تفاصيل تقشعرّ لها الأبدان عندما أفكر في أننا إزاء حزب لم يدرك السلطة، فما بالك إذا أدركها (انظر: حسقيل قوجمان «من وحي كتاب سفر ومحطات: عبادة الحزب»، موقع رزقار 17 أيلول/سبتمبر 2005).
على الموقع نفسه، وأيضاً من مصدر من داخل الحزب، يتحدث مقال آخر عن مرحلة أخرى مثيرة للجدل في تاريخ السيد كريم عند إشرافه على الشؤون المالية للحزب (مقال باسم «الكادر الحزبي» بعنوان «إلى سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي» موقع رزقار 15 كانون الأول 2002).
من البديهي أن من حق فخري كريم أن يرد على مثل هذه الاتهامات، مثلما أشار بيار أبي صعب في «الأخبار» (19 كانون الأول). لكن أن يلجأ إلى المحاكم للرد على اتهامات وَرَدَ ما هو أفظعُ منها بكثير في موقع مقرّب من «الحزب الشيوعي العراقي»، فإن ذلك يبعث على الاستغراب: إذ لماذا يجب أن يكون ما ينشره موقعٌ صديقٌ للسيد كريم مشكل سماح إدريس؟
سيكون موقفاً مفهوماً تماماً لو أن قضايا السيد كريم في المحاكم شملت مصادر المقالات التي يتهمها بـ«ثلبه» (مثل رزقار) ولم تتعلق بسماح إدريس بالتخصيص. وفي نهاية الأمر، ومثلما قال أبي صعب، فإن مبادرة كريم هذه «تريد أن تمنع السجال في قضايا ملحّة ومصيريّة لا تحتمل أيّة مساومة».
لكن قبل ذلك وبعده، فإن التهديد القضائي الموجه إلى سماح إدريس هو تهديد لمؤسسة عريقة ومستقلة تعاني الأمرّين للحفاظ على حد أدنى من الاستمرار في إنتاج الثقافة الرفيعة مثل مؤسسة «دار الآداب». لم يبق إدريس صامتاً إزاء كل ذلك. فكانت افتتاحية العدد الأخير لـ«الآداب» الذي صدر منذ ثلاثة أسابيع موجّهة إلى صلب الموضوع: «مال الثقافة»، ومن ثم خلفياتها السياسية. فما يجري لا يتعلق بشؤون «الثلب» والمرافعات القضائية، بل هو صراع بين صنفين من «المثقف التقدمي»: أول يؤمن بقوة الحجة الفكرية (لا القضائية)، لكنه يؤمن أيضاً بأنه لا تقدمية على الضد من المصالح الوطنية والقومية، وثانٍٍ... دعنا نقل إنه يؤمن تحديداً بعكس ذلك.
الوقوف إلى جانب سماح إدريس هو وقوف إلى جانب نموذج المثقف الأول... وليس ضد النموذج الثاني فحسب.
أختم ببعض المقتطفات من الافتتاحية الأخيرة لسماح إدريس: «أعرف أنّهم سيقولون إنّ أحداً لا يَفْرض عليهم (المقصود أصحاب المشاريع الثقافية المموّلة من خارج السوق الثقافية ـــــ ط. ك.) شيئاً، لا الأمير الفلاني ولا النظام العلّاني ولا المؤسسة الفلانية ولا الصناديق العلّانية. ولكنْ هل يستطيعون أن يَشْرحوا لنا أمراً واحداً فقط: كيف تخلَّوْا بهذه السرعة القياسية عن مصطلحات «تحرير فلسطين من النهر إلى البحر» و«الكفاح المسلّح» و«الصراع الطبقي» و«كنْس الاستعمار» و«الوحدة العربية» و«الاشتراكية»... لصالح مصطلحاتٍ أخرى من قبيل «تمكين المرأة» و«الديموقراطية» و«نبذ التطرُّف» و«وقف الختان» و«حوار الحضارات» و«التعايش» و«الحثّ على الاعتدال»؟ أنا، طبعاً، لا أعارض شعاراتهم الجديدة بالمطلق، ولكنْ هل زال الاحتلالُ والاستعمارُ والظلمُ الطبقي مثلاً؟ بل هل يُمْكن تحقيقُ شعاراتهم الجديدة، ولا سيّما الديموقراطيةُ وحوارُ الحضارات وتمكينُ المرأة، مع بقاء الاحتلال والهيمنة الغربية واستشراس المحافظين الجدد؟ وهل انقلابُهم السريع على مبادئهم القديمة معزولٌ تماماً عن تمويلهم الجديد؟».
وهكذا يكون أهم الأسئلة هنا هو التالي: في قضية «كريم ضد إدريس» سنكون إزاء محاكمة أي منهما؟
* كاتب تونسي