عاصم بدر الدين
نُظِّم معرض بيروت الدولي العربي للكتاب هذا العام في نسخته الواحدة والخمسين، ولبنان يمرّ في أصعب الظروف وأكثرها دقّة وخطورة. إلّا أنّ هذه الظروف الأليمة لم تمنع مدينة الحرف من ممارسة هوايتها المفضّلة (القراءة) ومن الاحتفال بالكتاب... الرابطة الجدلية التي تجمع بيروت بالكتاب، تخطّى عمرها خمسين عاماً... خمسة عقود من المشاركة، خمسين عاماً من النضال السياسي، الفكري والأدبي... وبيروت مدينة النشر والطباعة والإنتاج والمطالعة.
الكتاب يبعث بيروت من جديد: الكتابة عن بيروت ليست أمراً صعباً وليست مهمّة سهلة، فرغبة الكاتب وشغفه بمعانقة تاريخ المدينة وحاضرها يزيلان كل الصعوبات والمعوقات. وفي المقابل، الرهبة والهيبة اللتان يفرضهما تاريخها المشعّ يضعان خطاً ضيّقاً للكاتب، حدوداً لتقدمه ومعرفته وما سيكتبه. فأن تكتب عن بيروت، فأنت تكتب عن قديسة أعلنت طوباويتها بنفسها، تكتب عن أميرة توّجت نفسها على مملكة بنَتها من «حجار» و«رماد» التاريخ... إنّك تكتب عن أسطورة ولدت من رحم الآلهة. يُعرف عن القدّيسين أنهم رجال خير، ينشرون المحبّة والسلام. لبيروت دور مشابه ولكنه ليس دائماً. لبيروت المدينة ـــــ الأسطورة وجه آخر، وجه ألفه اللبنانيون وكل القادمين إليها من خارج الحدود، وجه دامٍ إلى حدّ الإجرام فالقتل.
بيروت الأصغر سناً بين شقيقاتها من المدن العربية الساحلية، استطاعت الصمود، رغم مراهنة الكثير من المدن المجاورة على نهايتها وهي في المهد، لكنها استمرت وذهبوا هم. حيفا عروسة الجليل الفلسطيني ومنافسة بيروت التاريخية، اضمحلّ دورها بسبب الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948. نستطيع أسطرة الفكرة أكثر، فنرى أن لعنة بيروت حلّت على حيفا ومدن الساحل المتوسّطي، فقضت على دورها... وانفردت بالواجهة البحريّة كلها.
لبيروت طابع تناقضي، مشاعرها دائماً متطرّفة. حين تحب، تحبّ إلى أقصى درجة حتى الوله، وحين تكره تصل إلى الذروة... إلى القتل. إنها حمّالة أوجه، كما يقول الإعلامي زاهي وهبي.
في كتاب «تاريخ بيروت»، يصف سمير قصير المدينة بأنها «جمهورية الآداب العربية». فبيروت الساحة والمقاهي والمشهد والحياة، قدّمت الكثير للأدب العربي، بنمطيه النثري والشعري. كانت دور النشر فيها ملجأ كل شاعر وكاتب، وكانت دورياتها الثقافية البارزة في الستينيات المسلك نحو المجد والشهرة. كانت بيروت الانطلاقة لكل أديب عربي، كانت المنفى لكل معارض، كانت المقر لكلّ انقلابي. لبيروت والحداثة الشعرية العربية تاريخ مشترك. فالشعر الحديث غير المقفّى أخذ مجده من بيروت، وكانت شهرته وانتشاره منها وفيها. فالشعراء الذين برزوا في هذا المجال كانت المدينة ـــــ القصيدة بيتهم، وأغلبهم مرّوا فيها وسكنوها ومنها انطلقوا.
لبيروت والرواية العربية تاريخ قديم. فالرواية العربية الأولى كانت من بيروت، وبيروت نفسها كانت مادّةً أولى في مختلف الروايات والقصص العربية. وإذا كان للأدب مجد في بيروت، فللفنّ أيضاً عظمة... فالمسرح العربي بدأ من هنا، والسينما العربية أفادت من موقع بيروت المميز، والأغنية أعلنت سموّها ورقيّها في حاضرة العرب الأولى.
بيروت القصيدة. بيروت الرواية والقصة. بيروت المسرحية. بيروت المشهد. بيروت الأغنية.
بيروت مدينة الأدب والفنّ والحرية.