منذر سليمان *
ليتني كنتُ على علمٍ بما أخفى فخري كريم وراء برقع الوقار ولطفِ الابتسامة الهاتفة في رنّة صوته، عندما تقدَّم منِّي وعرّف عن نفسه باللهجة العراقية العربية المحبّبة إلى قلبي. كان المشهد في استراحة بهو الفندق الذي ضمّنا أخيراً، حيث كنتُ مدعوّاً للمشاركة في ندوة «المال والإعلام والسلطة» في نشاطات مهرجان القاهرة للإعلام العربي. حتى تلك اللحظة لم أكن قد التقيتُ بالرجل الذي انطبعتْ في ذهني عنه، من متابعتي للأخبار، صورةُ اليساري السابق الذي تحوَّل «صائداً» لكوبونات النفط المشهورة بعد أن أضاف إلى محفظته الغنية صفةَ المستشار الدائم لجلال الطالباني، الذي يُرمز إليه حاليّاً بصفة «الرئيس» في العراق الرازح تحت الاحتلال الأميركي.
أبدى كريم استياءَ العاتب المستغرب، عندما بادرتُه بلهجةٍ ساخرة متسائلاً إن كنتُ قد أرهقتُه بمشقّة التنقيب، دون طائل، في قائمة كوبوناته التشهيرية عن اسمي.
غير أنّي، لم أكن على علمٍ بتوسّع مدى صيْده إلى آفاق جديدة، تعبيراً عن تماهيه مع سيّده الجديد، وتفانيه في الدفاع عن سمعته التي خَدَشها قلمُ ناقدٍ مُتّزنٍ وملتزمٍ بقضايا كان فخري كريم ذاتَ يوم يَزْعم تبنّيها، قبل أن تحلَّ مضاربُ «بني حداثة» الأميركية في ربوع العراق، وتَجْرف دبّاباتُهم طريقَ الحرية من الاستبداد الشرقي أمامه.
لقد قرأتُ في «الآداب» و«الأخبار» عن دعوى القدح والذمّ التي رفعها فخري كريم على سماح إدريس ومجلة «الآداب»، هذا المنبر الثقافي الحرّ العصيّ على التطويع والإلحاق، في سوق النخاسة الثقافية، وفي زمن يلهو ويَعْبث فيه مثقفو اليورو والدولار والنفط (بكوبونات أو بدونها) على معظم المنابر المرئية والمسموعة والمكتوبة. عندها، أدركتُ قعرَ الانحطاط الذي وصل إليه بعضُ الزمّارين بفوائد الاحتلال الأميركي، وسماسرةِ الثقافة الذين لا يتورّعون عن إقامة مهرجاناتهم الاستعراضية باسمها. فقد كنتُ إلى حين أعتقد ـــــ مخطئاً على ما يبدو ـــــ أنّ القضاء هو ملجأُ الضعفاء الاضطراري في مجابهة استبداد الأقوياء وطغيانهم وقهرِهم، علّه يعيد إلى أولئك الضعفاء بعضَ الحقّ والكرامة. ولم أكن أَعْلم أنّه يُراد للقضاء أن يُضْحيَ مرتعَ الجبناء ونزق العاجزين عن الحوار والمساجلة الفكرية والسياسية، وخاصةً عندما تتوافر لهم المنابر بيسر، وعندما يصان حقُّهم في الردّ من المنبر (أي «الآداب») الذي يَزْعمون أنَّه قد خَدَشَ حياءهم الرفيعَ جدّاً.
واللافت هنا أنّ فخري كريم، الذي صار من أصحاب السلطة والمال والإعلام معًا، يَعْجز أيضاً عن استكتاب ردٍّ ممّن تزخر بهم الساحةُ الإعلاميةُ العراقيةُ التي تورّمتْ مثل الفطر تحت سلطة الاحتلال التي عوّدتهم زرعَ المقالاتِ المدفوعة الأجر.
يبقى أن أذكّر القارئ بأن يسعى للاطّلاع على مقالة سماح إدريس، ليَحْكم بنفسه ويكتشفَ دعوى الافتراء عليه. فمقالةُ إدريس تَحْفل بالنقد الأدبي الرفيع والرصين، المسنود بالوقائع، عدا توجّهه إلى فخري كريم في أكثر من مكان بكلّ احترام، ويخاطبه بلغة الزمالة. عجبي! فمن يضعك على المرتبة نفسها، لا يُضمر لك شرّاً أو يقصد استخفافاً بقدرك، بل يناقش أفكارَكَ وممارساتك ومواقفك. فهل أضحى ذلك الحقُّ جريمةً تستدعي المقاضاة؟
قد يكون الأمرُ كذلك لدى مَنْ فرغت جعبتُه الفكرية، وضاق صدرُه، وتقلّص مداه، وجفّ مدادُه، لانهماكه بالسعي وراء سراب جني كوبوناتٍ جديدة... هذه المرة بواسطة القضاء. والحقّ أنَّه من المعيب أن يتوسّل بعضُ المحسوبين على الثقافة استباحةَ وتجريمَ ما تبقّّى من شموعٍ مضيئةٍ تصون شرفَ الثقافة وآدابها.
حقّاً صدق الشاعر بقوله: لا نامت أعين الجبناء!
* كاتب عربي