لطيفة بوسعدن *
في انتظار عقد مجلسه الوطني في 11 كانون الثاني/ يناير المقبل، يعيش الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على وقع «استقالة» ـــــ أو الدفع الى الاستقالة إن لم تكن الإقالة؟ ـــــ كاتبه الأول محمد اليازغي من منصبه قائداً للحزب وعضواً في المكتب السياسي. وعلى الخطى نفسها، قدم نائبه محمد الراضي استقالته من مهامه. وكلا الشخصين يتقلدان منصباً وزارياً في الحكومة، الأول كاتب دولة بدون حقيبة والثاني وزير للعدل.
الاستقالة أو تجميد العضوية كما سماها اليازغي، أثارت العديد من الاستفهامات: هل الأزمة التي يعيشها الحزب راهناً مرتبطة بأشخاص مسؤولين، أم أنها تتعدى ذلك لترتبط بأزمة أوسع تطال المرحلة السياسية الحالية برمتها، نظاماً وأحزاباً ومجتمعاً؟ وهل يتعلق الأمر أكثر بمحطة صعبة يمر بها الحزب وتتميز داخلياً بانحسار خياراته السياسية المرحلية، أم أنها علامة على تراجع مرحلة سياسية كاملة؟
قد تكون صدمة الانتخابات الأخيرة، حيث وصل الحزب في المرتبة الخامسة، أحد العناصر المعمقة للأزمة، وقد تكون «استقالة» اليازغي هي الشجرة التي تخفي الغابة. اليازغي الذي التحق شاباً بحزب القوات الشعبية، وعايش زعماء من العيار الثقيل مثل الشهيد المهدي بن بركة، وعبد الرحيم بوعبيد مهندس النظام الديموقراطي السلمي، وعبد الرحمن اليوسفي الذي آثر اعتزال السياسة... لا يملك كاريزما من النوع الذي يحيط بهذه الشخصيات، ولم يحمه نضاله التاريخي من الانتقادات التي وُجهت إليه، وعلى رأسها الكيفية التي دبّر بها مشاركة حزبه في حكومة يقودها غريمه التاريخي، حزب الاستقلال. فخلال تفاوضه مع الوزير الأول حول الوزارات التي سيشارك بها الحزب، لم يستحضر ما اتُفق عليه داخل المكتب السياسي، كذلك قبوله منصب وزير بدون حقيبة جعله محطّ سخرية داخل الحزب وخارجه. ومن جهة أخرى، يمكن القول إن اليازغي هو أيضا ضحية بداية تفعيل «بيان 21 أكتوبر»، وهو عبارة عن خلاصة لنقاش عام أجراه المكتب السياسي على أثر الفشل الانتخابي الأخير. لم تتم قراءة هذا البيان بعمق، فقد لامست فيه القيادة بعض العلل التي يشكو منها الحزب، ودعت إلى تبنّي موقف «المساندة النقدية للحكومة»، وهو الموقف الذي أُخد على اليازغي إعطاؤه إعلامياً تأويلات شخصية. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الكاتب الأول المُقال حُسب عليه نهجه سياسة انفتاح مكّنت عناصر وُصفت بالانتهازية من دخول الحزب، فهمنا لماذا دعا المكتب السياسي إلى إعادة الهيكلة وسيلةً لتفعيل الرؤية السياسية التي توصل إليها بيان أكتوبر، وهو ما يعني بشكل لبق لكن بالكاد مستور، إزاحة اليازغي من مهامه كاتباً أول.
فما يشكو منه الاتحاد الاشتراكي بالتأكيد هو تشوش في الرؤية السياسية والإيديولوجية. فمنذ دخوله تجربة التناوب التوافقي سنة 1998، التي تمت في إطار صفقة سياسية حدد مضامينها الملك الراحل الحسن الثاني بهدف إنقاذ البلاد مما سماه «السكتة القلبية»، عمل الحزب على إدخال نفسه في المتاهة... فهو أخطأ الرهان حين قبل بشروط السلطة ولم يفرض آنذاك شروطه تصفته حزباً معارضاً قوياً، فافتقد بذلك الاستراتيجية الواضحة، ودخل الحكومة معتمداً على خطاب سياسي منفتح بدون ضمانات حقيقية من الملك، ومارس تكتيكاً مرحلياً منفصلاً تماماً عن هويته اليسارية... فكان من السهل بعد ذلك على الآلية المخزنية أن تمتصه، وهي التي دأبت على تسخير الأحزاب داخل السلطة، لا مقاسمتها إياها.
لقد ضاع حزب الاتحاديين في زحمة تشابه الشعارات في «العهد الجديد». فالكل يقدم نفسه مناصراً للحداثة والديموقراطية، بما في ذلك اليمين الحكومي واليمين المعارض. وابتعد الاتحاد أكثر عن العائلة اليسارية، ولعل ذلك ما استدركه اليازغي حين دعا إلى «ضرورة إعادة بناء الاتحاد بعد مرور عشر سنوات على تحمّله أعباء التناوب التوافقي، بما يعنيه ذلك من تشييد للقطب الاشتراكي الديموقراطي الواسع لمواجهة اليمين الرجعي المحافظ، وبما يعنيه من تجديد لفكر الاتحاد الاشتراكي ولخطّه السياسي ولقياداته». هل هي اليقظة بعد فوات الأوان؟ على كل حال، النقد الذاتي هو ما يحتاج إليه هذا الحزب التاريخي مع تفعيل لإرادة المراجعة، وهي مراجعة ستتبلور معالمها خلال المجلس الوطني المقبل، وقد تكون مفتوحة على كل الاحتمالات، بما في ذلك محاسبة المكتب السياسي وإقالته، وربما المطالبة بعودة الحزب إلى صفوف المعارضة من أجل استعادة صدقيته المجتمعية. ذلك أن إعادة تجديد الخط السياسي والانفتاح على مكوّنات اليسار غير الحكومي لا يمكن أن تعطي أكلها والحزب يتموقع في قلب السلطة.
إن ما يحدث داخل الاتحاد الاشتراكي أمر طبيعي بالنسبة لتنظيم غيّر توجهاته من أجل ارتداء لباس السلطة والتماهي معها، وفقد قطاعات اجتماعية كبيرة، مثلما فقد تعاطف نخب ثقافية واقتصادية متعددة المشارب. وعليه الآن أن يقف ليتساءل عما أضافه العمل الحكومي لأجندته بصفته حزباً جماهيرياً وما الذي انتزعته منه السلطة، ولماذا كان تدبيره ضعيفاً في مرحلة التناوب التوافقي، وهل يمكنه الاستمرار في دور شرطي «الانتقال الديموقراطي» رغم بداية العد العكسي لمكتسبات أسسها التوافق مع الحسن الثاني. فقد أطلت إشارات هذا التراجع مع الكيفية التي تألّفت بها الحكومة الحالية. فمشروع تقرير لجنة التقويم داخل الحزب، الذي سوف يوضع على طاولة النقاش خلال انعقاد المجلس الوطني، انتقد مشاركة الحزب في حكومة 2002 التي ترأسها وزير تكنوقراطي، ومن غير المستبعد أن ينتقد هذا المجلس مشاركة الحزب في الحكومة الحالية التي يجمع الاتحاديون على أنها من صناعة مستشاري الملك. كذلك فإن «حزباً سرياً» جديداً وفد على الساحة السياسية قد أربك حسابات الاتحاد الاشتراكي. ويتعلق الأمر بتكتل برلماني مبهم الهوية السياسية، خلقه صديق الملك ومستشاره السابق وكاتب الدولة في الداخلية سابقاً... تكتل رآه بعض الاتحاديين دليلاً على الموت البطيء لمرحلة التناوب التوافقي، والعودة إلى أجواء مرحلة ما قبل التناوب.
لن يخلو النقاش المقبل كذلك من تناول الوضعية الداخلية للحزب. فقواعده تشكو من هوة عميقة تفصلها عن النخب القيادية التي تتفادى الاحتكاك بها، وهي أصبحت تمتلك تصورها لما يقع داخل الحزب ولم تعد تؤمن بقدسية الزعامات، بل بضرورة الوضوح السياسي، والحفاظ على الهوية الاشتراكية، وتفعيل الديموقراطية الداخلية مع اعتماد ثقافة الاختلاف، مما يعني الحق في خلق تيارات فكرية داخل الحزب الاتحادي.
* صحافية مغربية