خليل أحمد خليل *

I

  • ها نحن، الأحياء رغم كل شيء، أمام بالونات إسرائيلية، مختلفة الألوان، واحدة السم، واحدة الهدف: الإنسان في لبنان. لكأن هذا الإنسان المتشبّث بأرضه، كذاته، لا تكفيه الألغام والقنابل العنقودية المزروعة في بيئة قاومت العدو بكل مقومات حياتها التي صقلتها الأيام وجعلتها أقوى من كل موت. أولا تكفيه الهموم العادية، المضافة الى صدمات الحرب العدوانية، التي جمّلها المجمّلون في كل مكان بما توافر لديهم من ديكورات الثقافات وأقنعة الحضارات. فالحروب هي موت لا غير، وشركات الحروب الفاشية التي تدير الصراعات العالمية في الغرب، وراء ظهر دولها ودولنا أيضاً، تعرف قبلنا أن ما بقي من حقوق الإنسان في العالم لا يكاد يذكر بالمقارنة مع ما أُخذ منها، عنوة وحيلة. وها نحن اللبنانيون، الثلث المتبقي على روزنامة هنري كيسنجر، نتوق الى نسيم آخر، غير نسيم الثلث المهاجر، بل المهجّر من أرضنا، ونسيم الثلث المدفون في أرض البقاء. بين مهجّرين في العالم ومدفونين في تراب وطن، نتساءل: كيف الحياة في جو مسموم ومجنون؟ يقال إن علينا أن نصاب بالجنون العام، الثقافي، السياسي، النفسي ــ الاجتماعي إلخ.، حتى نتحمل أوزار الحرب الاسرائيلية على بلدنا. وها نحن على مشارف الصدمات المتتالية، نبحث في الذاكرة الجماعية عما يجعل الإنسان لا يفقد إنسانيته، بعدما باتت هويته في مهب أخطار جمة: ليس فقط في لبنان وفلسطين والعراق، ولا حتى في السودان والصومال وحدهما، بل في كل المغتربات التي يفوح منها «الحنين إلى الجذور»، فيما نحن هنا نتشبث بجذورنا، لأجلنا ولأجلهم ــ لكن، لا هم يعودون إلينا، ولا نحن نستطيع ترك الأرض، بلا أهل، فنعزي النفس بالقول «الموت بين الأهل نوم»!

    II

  • نامت عيون العالم ما بعد الحداثي عما يحدث لنا من موت يومي، فتناغي أمٌّ طفلها: «... وعين الله ما نامت»! هي موقنة أن ثمة عيناً، فوق الجميع، لا تنام، وأن هناك يداً فوق الجميع لا تُغلّ... ولكنها ماذا تفعل وقد تكاثرت عليها وعلى أولادها البالونات والعنقوديات ــ بدلاً من عناقيد العريشة المحترقة ــ والألغام، بدلاً من عرانيس الذرة وما تبقى من «الصحاري»؟ إذا نامت الأم، فمن سيوقظ طفلها؟ هكذا هي حال لبنان واللبنانيين، بعدما تفشى بينهم وباء الحرب، وصار الحب من أحلام الرومانسية النائمة بدورها. كلما تلابس الحنين بالأنين، صعب تمييز الغابة من الذئاب. لماذا الذئاب فقط، تساءلت أمٌّ آسيوية، وحين طلب منها الرحيل عن الغابة، بعدما أكلت ذئاب زوجها وولدها وابنتها، وباتت وحيدة، رفضت الرحيل، وقالت لناصحها: «الحاكم عادل... فلِمَ أرحل؟». ظلت الأم قرب مدافن عائلتها وهي مأخوذة بين انتظار «حاكمها العادل» وبين مجيئ الذئب ليأكلها. حتى الآن ما زالت الأم حية. إنها أم الانتظار! فمتى تكون أم الانتصار؟ هذا ما لا تعرفه. لكنها أدلت بشهادتها ولم ترحل. ماذا كان اسمها؟ لا أحد يعرف، لا أحد يريد أن يعرف. ربما كانت بلا اسم. عجيبة! لا. كل الأمهات بلا اسم آخر، سوى الوالدات. اللواتي يلدن هنّ حكماً أمهات وهناك أمهات في تاريخنا لم يلدن أولاداً، بل أمماً. أما الأب الذي أكله الذئب، فلا بد من أن يطلع، ذات ربيع، من كم بنفسجة، عوسجة، أو علّيقة، هل هناك فرق؟

    III

  • مَنْ يسأل عندنا عن الفرق بين آت من المستقبل وبين ذاهب بنفسه إلى ماضي الوهم، الغبار؟ الفرق بنظر الأم هو أن أمة حائرة، لا تستطيع أن تموت، ولا ترضى بأن تحيا على غير هواها. حين قرأت أن الهوى هو أساس الهوية، لم يصدقها أحد، خارج الغابة. مع ذلك، ظلت بيروت يقظة وهي تشهد كيف تحوّل وسطها، قلبها، إلى ضاحية، وهذه تحولت إلى ضواحي جمهورية مهددة. أن تأتي من المستقبل يعني أن تترك كل ما لديك، وأن تضع الدنيا وراءك، وأن تطعن في سياسة لا تكون من معاني وجودك. أما أن تذهب إلى الغبار، فمعناه أنك تخون معاناتك، فتعلن حبّاً وأنت تكره مَنْ تدّعي حبه، وتعلن عدلاً وأنت تظلم مَنْ تدّعي شراكة وإيّاه... وتعلن حرباً وأنت تزعم سلماً مع مَنْ سلّمك أغلى ما عنده. الفرق في حالة اللبنانيين أن المعاناة مختلفة، وباختلافها تباين مجاز الكلمات، وتبددت الألفاظ، وتغيّرت الصور وملامح الناس الذين يقبعون وراءها... كأن الوطن «حيط» لا «مرآة»، وكأن «الجامعة» مقبرة لا منارة! الفرق بين دخولهم إليها وخروجهم منها، ذات خميس، يشير إلى مفارقات الدولة والغابة، مفارقات العلم والقتل، مفارقات المعنى واللامعنى السياسي.

    IV

  • أخيراً، خرج بعضهم في توابيت، بعضهم الأكثر على نقّالات... هل كانت «لعبة عسكر وحرامية» في حرم جامعة؟ ينكر القنّاصون ذلك. كانت رحلة صيد بري! حين عُلِّقت الدروس، لم يُعلَّق ما في النفوس ولا ما في النصوص. تكاثرت «الروشتات» لا لعلاج المريض، بل لقتله. هذا معنى سياسي لبالونات «إسرائيل» الملونة. هناك معنى آخر لتهريب أموال اللبنانيين من المصارف، بينما يعلو ضجيج «باريس 3»، كيف وصلنا بهذه السرعة، من باريس واحد، إلى باريس 2، إلى باريس 3، ونحن لا نربط فيها خيلاً؟ هل أُخرج مال من بيروت أكثر مما سيعطى لها قروضاً وهبات؟ بقيت الأم بيروت. وإذا رحلت، فلماذا الأموال؟ يراهن أبناؤها، من كل لبنان، على أنها لن ترحل، لا تستطيع أن ترحل عنهم ولو ميتة. سأل ولد: هل هناك أم لا تموت؟ أخيراً، توجّس الولد خيفة على مستقبله، وراح يعانق أمه، يشدّها إليه حتى لا تتركه، لم يلاحظ أنها فَقَعَت خوفاً عليه. لم تكن بالوناً. كانت أكثر من ذلك. حين عرف الأب أن ابنته محاصرة في الجامعة، فقع ومات. ناس من لحم، تعوزهم الأعصاب. لم يخافوا من «إسرائيل» في الحرب ولا من ألغامها وعناقيدها وبالوناتها... و... خافوا مما هو أخطر من ذلك كله. أن تموت الأم بيروت، كما تجري محاولات لإماتة الأم ــ بغداد، الأم ــ غزة، فلسطين... مقديشو... دارفور...!

    V

  • لم تعد وسائط الإعلام العالمية تلهج بغير هذا الموت المعلن، الذي يتهدد أيضاً دمشق وطهران... و... بيروت! أما الموت المسكوت عنه، فلا أحد لديه وقت كاف لقراءته في معاناة اللبنانيين. حين لا نتكلم يسود الصمت ــ الموت. لِمَ نحن متشائمون إلى هذا الحد؟ لم يسبق لنا أن قاربنا المجهول، وهرفنا بما لا نعرف، كما نهرف الآن. مجتمع يقارب بكل وسائله فراغ السياسة، فيكتشف أنه وراء معناها، لا معنى. لم يعد اللبنانيون يواربون، يستعملون عبارة «بلا معنى». صاروا يعنون ما يقولون. معاناتهم الراهنة وجودية، ما بعد سياسية. لا أحد من السياسيين يصدق أن أكثر اللبنانيين باتوا يحلمون بلبنان آخر، بأي مكان آخر. هذا المكان لا يطاق. حين يتحول المكان إلى منفى، ولا أحد يعطي زماناً ما لمكان متروك، يُصاب المتروكون بمرض التخلّي. مع ذلك، لا أحد يرغب في إخلاء سبيل الناس، حتى يخرجوا من الشؤم. يقال لهم تفاءلوا، فيزدادوا شؤماً على شؤمهم. لم تعد عبارة «يا عيب الشوم» دارجة هذه الأيام، حتى في البلاد التي وضعت قانوناً للعيب. نحن لدينا أفضل قوانين، قال القاضي للمتداعين، ولكنّا لا نستطيع أن نحكم بين الناس بالعدل، سألوه: ما معنى محكمة دولية، إذا فقدنا دولتنا؟ هذا ليس من اختصاص القاضي، فهم المتداعون من وراء الصمت، تحوّلت الشوارع والحيطان إلى دفاتر ومدارس للمجانين، ولا أحد منهم يصرّح بجنونه، تدنّت العقلانية السياسية في لبنان إلى درجة باتت فيها الأخلاقية تهمة أو جريمة أو... مفسدة، في مرحلة «المافيات»، ما معنى رجال دولة وعقل وحكم وضمير ومسؤولية؟

    VI

  • لم يعد ثمة معنى سياسي لمعاناة اللبنانيين، بعدما صارت الجمهورية لغير الجمهور، وصار اللبنانيون مهددين في بقائهم، في وجودهم... في الأعظم، وهو فقدان عقولهم وأعصابهم، لا بسبب الموت، بل بسبب الموت في الحياة، في مرحلة وأد الناس أحياء في بيوتهم، على شرفات المجهول، الذي ينفي معظم السياسيين دفع الناس إليه. معظم الناس ينتظرون في بيوتهم ما حلم به هولدرلين: «فجأة، يأتي الصوت الذي يخلق العالم!» وحين جاء الصوت من تحت أنقاض بيت مدمر في الجنوب، لم يؤخذ على محمل الجد السياسي. ذلك الصوت المفاجئ ــ حتى للموت نفسه ــ كان صوت بقاء على نقاء. قد تطول معاناة هذا الشعب الأسير، قد تغيب دولته طويلاً، قد... وقد... لكن معنى جديداً سيعطى لأرض هؤلاء الناس. فليحتفظ «شعراء» السياسة بمعنى آخر في قلوبهم، هذا لن يؤثر في معنى أن تقاوم لمجرد تشبّثك بالأم، بالأرض، ببيروت... بمبدأ الدولة. أما الحاكمون ــ بلا معنى ــ فلا بد لهم من أن يستذكروا مصائر المافيات والعصابات.
    * كاتب لبناني