سعد الله مزرعاني *
تطرح متغيرات ما بعد التعثر الأميركي في العراق (ابتداء من الاعتراف الرسمي الأميركي بهذا التعثر أوائل الصيف الماضي) أسئلة عديدة عن «جديد» المرحلة الراهنة. وتزداد إلحاحية هذه الأسئلة خصوصاً، بعد إعلان «الاستراتيجية الأميركية الجديدة»، حيال العراق، من قبل الرئيس الأميركي، في النصف الأول من الشهر الماضي.
يسود الاعتقاد بأن الرئيس الأميركي سيحاول، بالقوة وبالنار وبالدم، تدارك بعض ما عجز عنه في العراق (واستطراداً في المنطقة) في المرحلة السابقة. يصف البعض هذا «الهجوم» بأنه، لأسباب عسكرية في العراق والمنطقة، وأخرى سياسية في الولايات المتحدة الأميركية نفسها، هو، في أحسن الحالات، لتأمين انسحاب «مشرف»، يتيح لبوش شخصياً إنقاذ ماء وجهه، ولحزبه خوض معركة الرئاسة في أواخر العام المقبل بالحد الأقل من الخسائر.
إذاً، بوش بدأ العد العكسي للانسحاب، سواء كان «مشرفاً» أو غير مشرف. وهذا حدث ذو تأثير كبير في المنطقة وفي العالم وفي الولايات المتحدة نفسها. وهذا التأثير، يكاد يكون على طرفي نقيض مما كان يخطط له «المحافظون الجدد» من خلال غزو العراق واحتلاله لما يكاد يقترب من الأربع سنوات.
بيد أن هذا الأمر، يطرح سلسلة تحديات على الوضع الشرق أوسطي، وعلى الوضع العربي، وعلى وضع الخليج والعراق خصوصاً: من يملأ الفراغ؟ ما هي مستلزمات لملمة الوضع الداخلي في العراق، إيقافاً للتقاتل وقطعاً لدابر الفتنة المذهبية والإثنية؟ ما هو دور دول الجوار في تسهيل تسوية بين العراقيين تنقذ لهذا البلد المهم في ثرواته البشرية والاقتصادية، وحدته، وتعيد سلامه الأهلي، وتؤكد عروبته القائمة على التعدد والحافظة للتنوع القومي، والآخذة بالأساليب والعلاقات الديموقراطية...
قد يبدو طرح هذه الأمور مبكراً منذ الآن. البعض يظن أن مسألة الانسحاب لم تبت بعد، ولم تصبح الاحتمال الأكثر ترجيحاً. والبعض الآخر، يعتقد أن مستوى التعقيد يدفع باتجاه واحد كما تبدو الأمور راهناً، وهو اتجاه التقاسم والتقسيم بوسائل الفتن والحرب الأهلية والنزاعات التي ستطاول دول المنطقة في علاقاتها في ما بينها أو في أوضاعها الداخلية. ومع ذلك، فلا مفر من إعلاء الصوت بمطالبة ذوي الشأن، بالاستعداد لتحمل مسؤوليتهم، وبالتعامل مع وقائع مختلفة ومعادلات متباينة عما هو قائم حالياً.
في مجرى استراتيجية بوش «الجديدة»، ثمة ما هو جديد نسبياً، فقط، في مجال بعض التكتيكات والأولويات والعلاقات. صحيح أن بوش وشريكه طوني بلير ما زالا يغذيان الانقسامات المذهبية والإثنية، إلا أن جملة نتائج غير متوقعة، قد دفعتهما إلى إجراء تغيير حيال الكتل العراقية. يتصل جزء من ذلك بالنفوذ الإيراني في العراق. ويتداخل مع تصميم إيران على امتلاك الطاقة النووية ورفض واشنطن (وإسرائيل) لذلك.
في امتداد هذا التعديل، تجري محاولات الآن للانفتاح على «العرب السنة» في العراق. وتمهيداً لهذا الأمر جرى التراجع عن قانون «اجتثاث البعث»، والسعي للتعاون مع ضباط الجيش السابق... كذلك، فعملية إعدام (أو اغتيال) صدام حسين، قد حصلت في السياق نفسه، لأن الرئيس السابق قد رفض «التعاون»، ما استدعى إلغاءه بالصورة الشنيعة التي شهدها العالم!
حذر بوش في استراتيجيته الجديدة ــ القديمة شعب الولايات المتحدة من الخطر على أمنه. وحذر دول الخليج والدول «المعتدلة» الأخرى، من الخطر على وجود أنظمتها، إذا هزمت الولايات المتحدة في العراق. وقد استتبع ذلك قراراً سريعاً بزيادة عدد القوات الأميركية وزيادة موازنتها، وضغطاً كبيراً على محور «الاعتدال»، من أجل الانخراط النشيط في تنفيذ نصيبه من المحاولة البوشية الجديدة.
إلا أن الرياح لا تجري وفق ما تشتهيه سفن بوش. لقد تخلى الرجل عن المزاعم الديموقراطية في مشروعه الشرق أوسطي (وكانت هذه المزاعم، ولو شكلية، تزعج «المعتدلين»). وهو، كما أسلفنا، قد عاد لينفتح على «العرب السنة» في العراق، ويدعم بلا حدود الرئيس فؤاد السنيورة في لبنان، ويتباين مع إيران بشكل مطّرد في العراق. إلا أن ذلك، قد حصل في مرحلة الضعف والعجز الأميركيين. وهذا ما يجعل مواقف «المعتدلين» (وخصوصاً السعودية) تتصف بازدواجية واضحة: من جهة محاولة، تدعيم الموقف الأميركي لمنع الخصوم من الانتصار، ومن جهة آخرى، الشعور بارتخاء القبضة الأميركية، والسعي لاعتماد سياسات من شأنها تقليل خسائر حلفاء واشنطن، في غير اتجاه ومضمون.
وفي هذا السياق، فإن ما كان متعذراً أو ممنوعاً بالفعل، قد بات ممكناً في مرحلة التعثر الأميركي. إن الصلات الإيرانية السعودية تقع في هذا المجرى. وكذلك الصلات العراقية ــ السورية (يروي مطلعون أن الرئيس جلال الطالباني رغب مراراً في زيارة دمشق، إلا أن الأميركيين كانوا يمنعون هذه الزيارة باستمرار).
لا شك أن هذه الصلات تنطوي على عنصري الحوار والصراع، وخصوصاً منها الصلات الإيرانية ــ العراقية. إلا أنها مقدمات ضرورية ارتباطاً بما سبق وأشرنا إليه في البداية. فإذا كان من بين أكثر الاستنتاجات خطورة وأهمية، بروز «حدود القوة» لدى واشنطن، وظهور بوادر الوهن والانحسار في قدراتها، فإن من الضروري بناء خلاصات بهذا الحجم أيضاً من الأطراف التي كانت قد سلمت كل أوراقها ومصائرها وأمنها للولايات المتحدة الأميركية.
وتصبح هنا مسؤولية كل من إيران وسوريا أكبر، لجهة الانخراط في بحث جدي وحقيقي لاقتراح (أو لاشتقاق) منظومات علاقات وأمن وحسن جوار ودفاع.. ذات عناصر مستمدة من الواقع الإقليمي. ذلك لا يعني أبداً الاستخفاف بقدرات وبمصالح الولايات المتحدة، ولا يعني خصوصاً زوال خطر مشاريعها في تجديد السعي إلى الهيمنة، وأساليبها في التشتيت والتفتيت وتعميم النزاعات من كل نوع. المقصود هو بداية إدراك إيقاع التطورات على المستوى الدولي، والمساهمة في تعزيزه أو حتى تطويره! وهذه التطورات تؤكد أن السيطرة الأميركية المطلقة على العالم ليست أمراً ممكناً، وأن العالم يتجه سريعاً إلى تجاوز حقبة القطب الواحد، وأن الكتل الدولية المتزايدة النفوذ والتاثير، في طريقها إلى بناء مشهد عالمي جديد...
بديهي التأكيد أن ما هو مطروح، ليس إقامة أمن إقليمي بديل للأمن الأميركي المدعم بالقواعد العسكرية وحاملات الطائرات وبعلاقات التبعية... إننا نتحدث عن دور نسبي في منظومة الأمن: نوع من المساهمة المستندة إلى العوامل الذاتية والمصالح الوطنية والقومية، وإلى الشراكة المصيرية بين دول المنطقة، التي يجب أن تكون مبنية على علاقات تكافؤ بحدود دنيا.
الأمر الثاني، هو امتلاك مقاربة سياسية شعبية، تحث وتطالب وتسعى إلى التغيير.
وبالنسبة إلى لبنان، فيبدو أن الاحتكار الأميركي سيحظى بفترة أطول، وتظل علاقات السنيورة بالعالم القريب والبعيد، تمر عبر واشنطن دون سواها!
* نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني