محمد شقير*
يقول الإمام الحسين (ع) في بعض خطبه: «إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما». وهو يعود بنا الى قول للإمام علي (ع) في صفين مفاده: الحياة في موتكم قاهرين والموت في حياتكم مقهورين. الرؤية الإسلامية للحياة الدنيوية المادية (أي حياة الأبدان) تختلف عما يراه آخرون إذ إن هذه الحياة ليست هدفاً بذاتها، وإنما هي وسيلة لحياة أسمى وأعلى، وهي حياة الإنسان في روحه وفي قلبه. فبمقدار ما يعمل الإنسان في نفسه تزكيةً بالفضائل وتحليةً بالمكارم وقرباً من الله تعالى، بمقدار ما تزدهر هذه النفس بالحياة بالمعنى الفلسفي والوجودي. وبمقدار ما تسقط بالرذائل بمقدار ما تهوى في الموت. وإذا كانت حياة الأبدان أمراً تكوينياً يكتسبه الإنسان بالخلقة، فإن حياة الأنفس ليست أمراً يناله الإنسان بالخلقة وإنما يكتسبه بفعله وجهده وتزكية نفسه وبمقدار ما يقترب من الفضائل ويبتعد عن الرذائل.
ولذا كانت دعوة الأنبياء دعوة إلى الحياة «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم» أي إن دعوة الرسول هي دعوة للحياة الحقيقية أي حياة الأنفس والقلوب التي تحصل من أعمال الخير والطاعة والإيمان بالله تعالى. وما حياة الأبدان إلا وسيلة لهذه الحياة توصل إليها وتساعد عليها.
بل إن هذه الحياة التي يكتسبها الإنسان بجدّه وعمله في الدنيا هي التي تمنحه الحياة بعد تركه للدنيا «لا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء». في حين أن الذين كانوا أحياء الأبدان، أموات الأنفس والقلوب في الدنيا، هم الذين يخيم عليهم الموت بعد تركهم للدنيا «أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون» ويبقون في موتهم ـ كما كانوا في الدنيا ـ إلى يوم القيامة.
ومن هنا، فإن حركة الإمام الحسين (ع) انطلقت من رؤية للحياة ترى أن الحياة الحقيقية للأمة لا تكمن بمقدار ما تأكل وتشرب وتترف. فهذه الأمور وإن كانت أموراً ضرورية ولا بدّ منها للحياة المادية وحياة الأبدان، إلا أن فلسفة الحياة تكمن في ما يعمل عليه الإنسان من تحلّ بالفضائل والمكارم وابتعاد عن الرذائل والمآثم، من تمسك بالعدل وابتعاد عن الظلم، من عمل بالإصلاح وصد للإفساد، من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وجهر بالحق الى كل المفاهيم التي جاءت بها الأديان من قيم أخلاقية ومعان روحية ومبادئ ترفض الصنمية سواء كانت أصناماً من حجر أو أصناماً سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية... وتدعو الى الحق والقسط.
إن ثقافة الحياة التي تختزنها ثورة الحسين (ع) تنشد الحياة التي يتحرر فيها الإنسان من أية عبودية، سوى عبوديته لله تعالى، سواء كانت هذه العبودية للذات أو أية عبودية مصطنعة وبأسماء باطلة وعناوين زائفة من سياسية أو اجتماعية أو سلطوية والتي تعمل على إغراق الإنسان في الموت عندما تريد منه أن يعيش عبداً لنزواته وشهواته وغرائزه لتعمل على استغلال ذلك من أجل منافع رخيصة ومصالح ضيقة ومكاسب فئوية لا تعير عناية للحياة الحقة والكريمة التي تنشدها الأديان وتعمل على تحقيقها الرسالات السماوية ودعوات الأنبياء.
إن الحياة في ظل القهر والظلم والفساد والمنكر والرذيلة هي موت حقيقي، وإن الموت في ظل العدل والحق والكرامة والحرية والعزة هي حياة حقيقية، حياة في الدنيا وحياة في ما بعدها... لأن النفس التي حييت بالقيم، قيم الوفاء والحرية والتضحية والإخلاص والطاعة لله تعالى هي نفس حية كريمة وإن عاد منها البدن الى موطنه الترابي، والنفس التي أصابها الذل سقطت في الهوى وبعدت عن الحق وعمي منها القلب هي نفس ميتة وإن كان لها بدن يتمتع كما تتمتع الأنعام.
الفرق بين ثقافة الحياة التي تدعو إليها الرسالات السماوية ودعاوى الثقافات الزائفة أن الأولى تدعو الى حياة القلوب وحياة الأبدان، في حين تدعو الثانية الى حياة للأبدان وموت للقلوب. الأولى ترى في حياة البدن وسيلة وفي حياة القلب غاية، وترى الثانية أن حياة البدن هي الهدف والغاية. ترى الأولى أن حياة القلب هي الأصل، وحياة البدن هي الفرع. في حين ترى الثانية أن حياة البدن هي الأصل الأصيل والفرع والبديل. الأولى تنشد الحياتين معاً، وترى في حياة البدن قبساً من حياة الروح. بينما تنشد الثانية الحياة الأدنى والأرخص. ترى الأولى أن الحياة درجات والموت دركات، وأن هدف الدنيا طلب الحياة للأسمى، بينما الثانية اختلط عليها مفهوم الموت والحياة لترى أن هدف الدنيا تحصيل الشهوات وتحقيق النزوات.
عود إلى الحسين (ع) لنقول إن الحياة في فهم الحسين هي حياة الدين والقيم، وإن الأمم تحيا عندما يحيا العدل ويفلح الحق ويموت الظلم ويخيب الباطل. ولذلك عندما ينتهك العدل ويسود الظلم ويعمد الى تحريف الدين وتجويف القيم، وعندما ينهى عن المعروف ويؤمر بالمنكر ويقمع الإصلاح وينتشر الفساد ولا يعمل بالحق ولا يتناهى عن الباطل، فمعنى ذلك أن الحياة الحقيقية للأمة قد أصبحت في خطر. فالأمة لا تستطيع أن تحيا حياة عزيزة حرة كريمة في ظل سلطان جائر ظالم مفسد. ومن هنا يصبح بقاء هكذا سلطان دعوة الى الموت وإغراقاً في الذل، ويمسي رحيله دعوة الى الحياة وإشراقاً للعز. ولهذا خرج الحسين (ع) لأن سلطان الوقت آنذاك كان دعوة الى موت الدين والقيم والعدل وإحياء الظلم والفساد والجهل، ومن هنا لم تكن لنفس أبية عزيزة كنفس الحسين (ع) أن تقبل حياة الموت وموت الحياة، ولم تكن لنفس حية حياة الحسين أن تقبل موت الحياة حياة الدين والأمة، بل لم تكن لنفس الحسين أن تبخل بحياة البدن وحياة أصحابه وأهل بيته إذا كانت ثمناً لحياة القيم والدين والعدل والأمة. لذا أصبحت شهادة الحسين ثمناً للحياة الحقة أي لموت السلطان الفاسد الظالم أي شهادة الحسين (ع) قد أضحت ثمناً لموت الموت ولحياة الحياة أي لحياة الدين والعدل. وهل يمكن لمن كان خروجه استمراراً لخروج جده رسول الله(ص) أن يبخل بحياة بدنه إذا كان موت البدن محركاً لحياة الدين والأمة؟
لقد أصبحت حياة البدن مقابلاً لحياة الدين والعدل والحق، وإذا كانت ثورة الحسين استمراراً لثورة جده رسول الله(ص). أي هي دعوة الى الحياة، فلن يدّخر الحسين جسداً أو وسعاً في بذل نفسه ومهجته عندما يضحى هذا البذل ثمناً لحياة أرقى وأسمى تحيا فيها الأمة حياة العدل والدين والحق.
لقد كانت رسالة الحسين، كثورته، دعوة الى حياة أحيت الدين وأحيت القيم وأحيت الأمم، رسالة تحتضن فلسفة للموت والحياة، يمتزج فيها كل منهما بالآخر. فقد يكون موت ما حياة ما بعدها حياة، وقد تكون حياة موتاً أشد من موت. إنها جدلية الحياة والموت، جدلية يدركها من وعى سراً من ثورة الحسين (ع).
* استاذ جامعي