محمد شري *
يشكّل المشهد الإعلامي والثقافي اللبناني صورة عاكسة للواقع اللبناني المأزوم ولحالة الاصطفاف السياسي الحادّ بين فريقي السلطة والمعارضة. حرب واصطفاف كلّي وانحياز وانخراط لكل العناصر الإعلامية والثقافية والفنية في المعركة السياسية، لا مكان فيها للحياد أو للموضوعية، فالمعركة لا تحتمل أي مساحة من مساحات الحياد أو النقد الموضوعي البنّاء.
وإذا كنا تفهّمنا انحياز وسائل الإعلام المرئي والمسموع بهذا الشكل الفاضح، فما بال الصحافة المكتوبة المفترض أنها تعبّر عن نخبة أهل الرأي والثقافة؟ فمن السهولة تمييز وتصنيف الصحف، وكذلك الكتّاب والمحللين. ومن النادر تصنيف أحد بالحياد والوقوف على مسافة واحدة من طرفي الأزمة.
إنها أزمة النخبة الثقافية والإعلامية في هذا الوطن، وهي جزء من أزمة الوطن الأكبر، نخبة ملحقة موظفة أجيرة في كل مواقعها الأكاديمية والرسمية للزعامات والتيارات السياسية والطائفية. نخبة تحت السياسة، لا فوقها كما ينبغي أن تكون. نخبة تصمم أفكارها وآراءها تبعاً للولاء السياسي، مع أن المفترض هو العكس تماماً. نخبة لا يمكن أن تكون حرة إلا بنسب محدودة جداً. كثيراً ما تساءلت أين مفاعيل هذه النخبة؟ أين مواقع البحث العلمي الموضوعي بين من يفترض أنهم منزهّون عن الأغراض المصلحية الشخصية كما هي حال أهل السياسة؟ أين الحوار العلمي الهادئ والرصين؟ أين صوتهم المتميز في الأزمات وأوقات المحن؟
لماذا لا يستفيدون من اللحظة السياسية المأزومة للّقاء والبحث العلمي، لتحليل أزمة الموطن المتجددة كل عقد أو عقدين من الزمن واقتراح الحلول لها؟ كيف نبني وطناً نتاج تسويات سياسية، وليس نتاج رؤى فكرية وإنسانية ومذهبية وليس على أصول إنسانية وقيمية ومبدئية جامعة؟
أليس لنا أن نتطلّع نحن اللبنانيين إلى وطن نكون فيه سواسية، لا نحتاج معه لنعرّف عن طائفتنا أو مذهبنا لنعرف حقوقنا وواجباتنا والمساحات والسقوف المتاحة لكل منا في هذا الوطن؟
أليس لنا أن نتطلّع إلى وطن لا نحتاج فيه للتعريف عن مذهبنا قبل أن نتكلم مع بعضنا بعضاً لنحدد وجهة الحديث وحدود الكلام المباح؟
أليس لنا أن نتطلع إلى تغيير وإصلاح من خلال آليات ديموقراطية سلمية يتيحها لنا النظام السياسي، أم أننا أسرى نظام سياسي مغلق غير قابل لأي تعديل أو تغيير إلا من خلال آليات من خارج أطره النظامية والدستورية والسلمية؟
هل كان الوصول إلى التفاهم على اتفاق الطائف يستحق كل هذه الحرب على مدى خمسة عشر عاماً؟ هل تستحق اليوم حكومة اتحاد وطني كل هذه الأزمة الوطنية المفتوحة على كل الاحتمالات؟
إذا كان نزول مليون مواطن، أو أكثر أو أقل، إلى الشارع غير قادر على إسقاط وزير أو وزارة، فأيّ فعل ديموقراطي قادر على تحقيق ما هو أبعد من ذلك؟
الديموقراطية التوافقية مبدأ يجمع عليه اللبنانيون، ويعتبرونه ضماناً لعدم الاستئثار والغلبة. صحيح، لكن أليس هذا المبدأ أيضاً مانعاً ومعطلاً لأي إمكانية تغيير أو إصلاح أو تطور حقيقي وجدّي من داخل آليات النظام؟ وكيف ستقبل أي فئة بتغيير على حساب مصالحها أو امتيازاتها؟! هل قدَرنا أن نتعايش مع الإقطاع السياسي والطائفي، ومع الفساد وميليشيات السياسة والأزمات الدورية باعتبار أن هذا هو لبنان؟ وأيّ تجاوز لهذه الحقيقة سيؤدي بنا للانزلاق إلى الحروب الأهلية؟!
كيف نبني، ونأمل بوطن لا يحاسَب فيه أحد مهما فعل ومهما ارتكب ومهما قتل ومهما نهب؟!
كيف نعيش في وطن يتساوى فيه المقاوم للعدو مع العميل للعدو؟ كيف نعيش في وطن، العدو فيه صديق لبعضنا والصديق فيه عدوّ للبعض الآخر؟! هل يستحق هذا الوطن، بكل ما فيه، كل هذه التضحيات الكبرى؟
كيف نأمل بوطن، المثقّفون فيه فرقة من فرق الميليشيا، والإعلام فيه إعلام ميليشيا، والمذاهب فيه أحزاب وميليشيا؟
عزاء المقاومة والمقاومين أنها مقاومة في سبيل الله، كما هي في سبيل الوطن، وأنها مقاومة ضد أعتى أعداء الإنسانية وأن شهداءها وأبطالها لهم أجرهم عند ربهم، لا عند مسؤولي وطنهم، وأن فعلهم يتجاوز حدود الوطن ليبلغ فضاء الأمّة والإنسانية جمعاء.
* كاتب لبناني