بولس خلف *
لم يكن نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني يبالغ عندما حذّر، أخيراً، من أنّ فشل بلاده في العراق سيؤثّر سلباً على مكانة الولايات المتحدة العالميّة. لقد توالت، في النصف الثاني من العام المنصرم، الدلائل علىّ أنّ الأحادية القطبيّة التي ميّزت العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تلفظ أنفاسها الأخيرة. وأصبح من الممكن التكلم بصيغة الماضي على العقد ونصف العقد الذي حكمت فيه أميركا العالم وهي قوّة عسكريّة عملاقة دون منازع، بعدما فشلت أوروبا في تكوين وحدة سياسية مستقلّة واكتفت بدور العملاق الاقتصادي المنضوي تحت المظلّة السياسية والعسكرية الأميركية المتمثّلة بحلف شمال الأطلسي.
ليست النخب المثقّفة العربيّة هي التي تبشر بأفول نجم العصر الأميركي الذي تميّز بحروب الإبادة العرقية (رواندا)، والدينية (البوسنة والهرسك)، والأزمات الدولية المتنقّلة (إفريقيا)، وعودة الاستعمار المباشر (أفغانستان والعراق)، بالإضافة إلى تعميق الهوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير وتفاقم مشكلة الانحباس الحراري وغيرها من المآسي التي حلّت على شعوب ودول العالم. على العكس من ذلك، فإنّ بعض النخب العربيّة ذاهبة إلى الحجّ بينما جموع المؤمنين عائدة منه، وهي تنظر أكثر من أيّ وقت مضى إلى محاسن العصر الأميركي وضرورة الاستفادة منه لتعزيز وضع العرب في المعادلات الدوليّة!
إن التحذيرات من تراجع نفوذ الولايات المتحدة وانتهاء الأحادية القطبيّة يطلقها مفكّرون وباحثون وكتّاب وصحافيّون غربيّون، ينعون بمزيد من اللّوعة والأسى عصر الهيمنة الأميركيّة، محمّلين المحافظين الجدد مسؤوليّة ما آلت إليه الأمور.
ولعلّ أبلغ تعبير عن ذلك ما كتبه تيموثي غارتون آش في «الغارديان» البريطانيّة في 28 كانون الثاني الماضي في معرض تعليقه على منتدى دافوس الاقتصادي العالمي: «قيل لنا إننا نعيش الآن في عالم أحادي القطب. وكانت الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة (...). لكن، وداعاً لكل ذلك بعد العراق. ولا يتعلّق هذا بفشل السياسة الخارجيّة الأميركيّة المفرطة في الثقة، لكنه يتصل بتحوّلات هيكلية عميقة». ويضيف الكاتب أن «التحوّل الأفقي باتجاه التعدديّة القطبيّة هو التحوّل الأكثر وضوحاً».
فشل الآلة العسكريّة الأميركيّة في العراق هو من العوامل التي عجّلت في انتهاء عصر الهيمنة الأميركيّة المطلقة على العالم. وقد أضاء جو غالاوي على هذا الجانب في مقال نشره في «لوس أنجلس تايمز» في اليوم نفسه تحت عنوان «أضرار جسيمة بالمؤسّسة العسكريّة الأميركيّة». ينتقد الكاتب الاتكال المفرط على التكنولوجيا العسكرية المتقدّمة. وهي نظريّة وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد الذي اعتقد أنّ أميركا ليست بحاجة إلى جيش كبير من حيث العديد، بل إلى مزيد من الاستثمار في المجالات التكنولوجيّة التي ستسمح لها بتسجيل انتصارات سريعة وغير مكلفة على أعدائها. ويلفت الكاتب إلى أنّ وزير الدفاع الجديد روبرت غايتس استهلّ خدمته بالتوصية بزيادة القوّة الدائمة للجيش والبحريّة بحوالى مئة ألف جندي، «وهو شيء أمكنه اقتراحه بعد طرد سلفه من منصبه فحسب». ويضيف جو غالاوي: «تحت قيادة الثلاثي بوش وتشيني ورامسفيلد فإنّ القليل من تريليونات الدولارات التي أنفقت على الدفاع على امتداد السنوات الست الأخيرة قد ذهب إلى من يتحملون 95% من حرب الضرورة في أفغانستان وحرب الاختيار في العراق. وبينما تؤدي هاتان الحربان إلى تعطيل الدبّابات وعربات القتال برادلي وطائرات الهليكوبتر وسيارات الهامفي بالآلاف، من دون وجود ما يكفي من المال لإصلاحها، فإنّ الطائرات ذات التقنيّة العالية والسفن البحريّة تلتهم ميزانيّة البنتاغون». ويقول الكاتب إنّه «حتّى لو انتهت الحربين في العراق وأفغانستان غداً، فإنّ الضرر الذي لحق بجيشنا وفيالق البحريّة يتعدّى إمكان حصره. ومن تجربتنا المريرة بعد فيتنام، من المعتقد أنّ إصلاح الضرر سوف يستغرق عقداً أو أكثر وسيكلف تريليونات الدولارات».
شيئاً فشيئاً، بدأت تتجلّى ملامح العالم الجديد المتعدد الأقطاب مع عودة روسيا والصين إلى الميدان بوصفهما قوّتين عظميين قرّرتا الوقوف في وجه التمدّد الأميركي. في هذا الإطار، يقول تيموثي غارتون آش في مقاله «دافوس 2007: كيف انتقلت مراكز القوّة؟»: إننا نعيش ألآن عصر نهضة آسيا. يشير إلى أن «الصين والهند تلعبان حاليّاً اللعبة الاقتصاديّة ضمن شروط ابتدعها الغرب إلى حدّ كبير، لكنّهما آخذتان في التغلّب على الغرب في لعبته الخاصّة. وقد بدأت قوتهما الاقتصادية النامية تترجم فعلاً إلى قوّة سياسيّة وعسكريّة». ويضيف الكاتب أنّ «روسيا بوتين باتت اليوم قويّة بسبب الغاز والنفط (...) ولعلّ تفاعل الاتجاهين الرئيسيين ــ النهضة الآسيوية والسباق على الطاقة ــ هو الذي يشكّل ملامح التعدديّة القطبية الجديدة».
هذا التفاعل بين العملاق الاقتصادي الصيني والجبار النفطي ــ العسكري الروسي بدأ يترجم في ملفات عديدة هي موضع خلاف مع الولايات المتحدة. المعطى الحاسم الذي يؤكّد أنّ مرحلة المواجهة مع أميركا قد بدأت فعلاً كان استخدام الصين وروسيا حق النقض ضدّ قرار أميركي في مجلس الأمن يهدف إلى تشديد عزلة النظام في ميانمار. وكانت هذه أوّل مرّة منذ زمن بعيد يستخدم فيها الفيتو. لكن يبدو أنّ آسيا ليست الساحة الوحيدة التي قررت الدولتان الوقوف فيها أمام تمدّد النفوذ الأميركي. كلام وزير الخارجيّة الروسي في المقابلة التي خصّ بها صحيفة الحياة على نيّة بلاده لعب دور محوري في الشرق الأوسط لا يحتمل التأويل. فقد رأى سيرغي لافروف أنّ هذه المنطقة تتمتّع بأهميّة استراتجية بالنسبة إلى روسيا، ولا سيّما أنّها تقع على حدودها الجنوبيّة. المواقف التي يطلقها المسؤولون الروس من الملفات الخلافية مع الولايات المتحدة تؤكّد إذاً قرار موسكو بالمواجهة. وليس تسليم إيران دفعة جديدة من أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات TorــM1 في خضمّ الصراع بين طهران وواشنطن إلا دليلاً على توجّهات روسيا. ميخائيل غورباتشيف، الرئيس السوفياتي السابق، يؤكّد أنّ هناك نقطة تحوّل حدثت في العلاقات الدوليّة في الأشهر الأخيرة. يقول آخر رئيس سوفياتي في مقال نشره في صحيفة «الغارديان» في 20/1/2007 إنّه قد تكون السنة الماضية شهدت نهاية حقبة كاملة من العلاقات الدوليّة، أيّ فترة الأحاديّة والفرص الضائعة ما بعد الحرب الباردة. يضيف غورباتشيف: «هناك خطر حقيقي يهدّد بانقسام جديد للعالم. هناك نقاش واسع عن حرب باردة جديدة. فغطرسة القوّة العسكريّة أدّت إلى أزمة خطيرة وقائمة وإلى انحدار دور ونفوذ الولايات المتحدة».
ويعتقد غورباتشيف أنّ التحوّل الديموقراطي لروسيا سيجعلها لاعباً جديداً وقويّاً في المشهد الدولي: «إن عودة انبعاث روسيا من جديد، وإصرارها على حماية مصالحها وقدرتها على لعب دور صحيح في العالم أمر قد لا يفضله الجميع. إلا أنّ روسيا لن تعود للوراء، فالجزء الأكبر والأصعب من الطريق قد اجتزناه وأصبح وراءنا».
مستقبل سوريا، موضوع المحكمة الدوليّة في قضيّة اغتيال رفيق الحريري، المسألة النوويّة الإيرانية، وجود الأطلسي في أفغانستان، كلّها ملفّات سوف تشهد اشتباكاً بين أميركا وروسيا. على الذين ربطوا مصيرهم بالولايات المتحدة ظنّاً منهم أنهم أحسنوا اختيار الحصان الرابح أن يعيدوا حساباتهم. فالأحاديّة القطبيّة انتهت والدب الروسي استفاق من سباته.
*كاتب لبناني