بولس الخوري *
يوهمون الشعب بأنّه هو مصدر السلطات، وأنّ من ينتخبهم نوّاباً عنه يمثّلونه هو، وأنّ من يرتضيهم ممثّلوه وزراء يقومون بخدمته، أي بتلبية حاجاته بالشفافيّة والفعّاليّة، وأنّ القضاة الذين ارتضاهم يقضون فيه ويعدلون بالقسط والميزان.
قد يبدو هذا الوهم حقيقةً لكون الأمور تسير بحسب البروتوكول الديموقراطيّ البرلمانيّ. فعندنا سلطة تشريعيّة، أي نوّاب ينتخبهم الشعب ممثّلين له ويسنّون القوانين لمصلحته ويراقبون عمل الوزارة. وعندنا رئيس للجمهوريّة يحرص على التزام الدستور وسيادة الوطن والمصلحة العامّة. وعندنا سلطة إجرائيّة، أي وزراء، منهم وزراء خدمات يؤمّنون الماء والكهرباء والمحروقات والرغيف وغيرها لجميع المواطنين، ومنهم وزراء دولة. وعندنا موظّفون كبار وصغار، من مدراء ومَن دونهم للوزارات وغيرها من المصالح العامّة والخاصّة. وعندنا سلطة قضائيّة، أي جسم قضائيّ يحكم بالعدل وفقاً للقوانين. وعندنا حرّيّات وحقوق وواجبات يحدّدها الدستور والقوانين. إذاً نحن شعب سيّد حرّ مستقلّ في بلد، هو لبنان، حرّ مستقلّ سيّد، له من الديموقراطيّة البرلمانيّة ما يقال إنّ لغيره من الدول الحضاريّة المتقدّمة.
هذا يبدو صحيحاً كلّ الصحّة من حيث البروتوكول. أمّا عند النظر والتدقيق والتحقّق، يتبخّر الوهم، وتبدو الديموقراطيّة اللبنانيّة مجرّد سراب ومسرحيّة أو ديكور يقوم كلّ من شغل المناصب المذكورة بالتمثيل الفنّيّ على قدْر ما أوتي من موهبة في الإيهام والاستفادة من الدور الذي يقوم به في هذه الكوميديا الإنسانيّة، على حسب العنوان الشامل الذي اختاره الروائيّ الفرنسيّ بالزاك Balzac لمجموعة رواياته، في مقابل العنوان، الكوميديا الإلهيّة، الذي اختاره الشاعر الإيطاليّ دانته Dante لملحمته، علماً بأنّ الكوميديا الإلهيّة يصوّر مصير من كان من الناس في المطهر وفي الجحيم وفي السماء، كما الكوميديا الإنسانيّة تصوّر مصير الناس في مجتمع قد يكون مثيلاً للمطهر أو للجحيم أو للسماء.
لننزل إلى أرض الواقع ونبحث عن الحقيقة المستورة ــ حياءً ؟ ــ وراء هذه الديموقراطيّة اللبنانيّة البرلمانيّة. الحقيقة أنّ الشعب لم ينتخب من يمثّله، فالنوّاب فرضتهم طوائفهم أو أحزابهم أو كتلهم، وغالباً ما اضطُرّ الشعب إلى تصويت مبرمج ومأجور ــ وقد درج الحديث عن المال السياسيّ به تُشترى أصوات الشعب وتُسلَب منه حقوقه وحرّيّاته. فصار النوّاب يمثّلون من صنعهم، ولا يمثّلون الشعب. والحقيقة أنّ الوزراء فرضتهم طوائفهم أو أحزابهم أو كتلهم، وليس للشعب أيّ دخل في تعيينهم. فليس عليهم أن يقوموا بأيّ خدمة للشعب، بل صاروا في خدمة من وزّرهم. وليس للشعب أن يطالب بالماء والكهرباء والمحروقات والصحّة والرغيف وغيرها من الخدمات. وكلٌّ من رئيس الجمهوريّة ومن رئيس المجلس النيابيّ ورئيس الوزراء تفرضه طائفته المارونيّة والسنّيّة والشيعيّة. فقد يقوم رئيس الجمهوريّة بالحفاظ والسهر على الدستور وعلى سيادة الوطن. لكن ليس من صلاحيّاته التدخّل في تلبية حاجات الشعب. وموظّفو الإدارة، الكبار منهم والصغار، صُنعوا «في» لبنان، ولم يصنعهم الشعب اللبنانيّ. فليس للشعب المطالبة بحقّ أو بحاجة، فالموظَّف يُنعِم أو لا يُنعم، على هواه، على الشعب بما يعتقد الشعب أنّه حقٌّ مشروع له.
أين هي إذاً هذه الديموقراطيّة البرلمانيّة اللبنانيّة المزعومة؟ يقولون إنّها توافقيّة، أي إنّها صيغة لبنانيّة فريدة. وقد يصحّ أن يقولوا إنّها ديموقراطيّة طوائفيّة، فيكونون قد جمعوا بين المتناقضات، حيث الديموقراطيّة تقول بسلطة الشعب، فيما التوافقيّة تقول بهيمنة القيّمين على الطوائف وبغياب الشعب. فالقول بلبنان الديموقراطيّ إن هو إلاّ مِصيدة يقع في فخّها البسطاء، ويستعملها النبهاء لتثبيت سلطتهم والاستفادة من مناصبهم كلٌّ على قدْر شطارته.
العلّة في هذا الوضع الشاذّ أنّ الشعب ليس على مستوى من الوعي السياسيّ والاجتماعيّ يؤهّله للنظام الديموقراطيّ وللممارسة الديموقراطيّة، أو إنّه مغلوبٌ على أمره، لا يسعه، بل يخشى، أن يطالب بما يحقّ له أصلاً. ووجهٌ آخر من العلّة هو تقاعس القيادات والفعّاليّات عن واجبهم الوطنيّ في توعية الشعب وتهذيب الشباب على الوطنيّة والروح الديموقراطيّة، بدلاً من إفسادهم بتصرّفاتهم الشاذّة وتكالبهم على المغانم. وقد يصل التقاعس إلى حدّ التصميم على تجويع الشعب وإفقاره فلا يعود بإمكانه إلاّ الإذعان والانقياد. يقال في مثل تلك الحال: تُسيَّر الدابّة بالجزرة المعروضة أمامها على مسافة محسوبة. ولعلّ الديموقراطيّة البرلمانيّة اللبنانيّة هي هذه الجزرة يسعى المواطنون إلى الحصول عليها وهي لمّا تزل بعيدةً عن منالهم.
وقد تكون العلّة في تدخّل الدول، الشقيقة منها والغريبة، في شؤون الوطن الداخليّة، وجميعها تدّعي الصداقة للبنان والاستعداد لمساعدته من دون مقابل ــ صدّق إن شئت. فيكون النوّاب والوزراء وغيرهم من الموظَّفين هبطوا في لبنان بعد أن صُنعوا في بلدان نظر حكّامُها إلى الشعب اللبنانيّ على أنّه قطيع أغنام، وتعاملوا مع القيادات اللبنانيّة على أنّها بيادق في لعبة الشطرنج.
* باحث لبناني