مهدي شحادة *
تسعى الدبلوماسية الفرنسية، على أكثر من صعيد، لعرقلة التوجه الأوروبي العام المتمثل في منح سوريا فرصة للتطبيع مع المجموعة الدولية أولاً، ومع الاتحاد الأوروبي ثانياً، على خلفية البحث عن مخرج للتخبط الذي يعانيه الشرق الأوسط.
وتحركت فرنسا في اتجاهات عدة في الآونة الأخيرة للحيلولة دون ان تتم ترجمة الدعوات التي أطلقتها بعض العواصم الأوروبية منذ نهاية العدوان الإسرائيلي الصيف الماضي على لبنان لمراجعة المواقف الأوروبية تجاه دمشق.
وقادت إسبانيا المدعومة من إيطاليا بقوة هذا التوجه على اعتبار ان سوريا قد تخفف الضغط على القوات الأوروبية في جنوب لبنان وقد تمنح الدول الغربية مخرجاً فعلياً في الأزمة الإقليمية في المنطقة المستعصية والمتركّزة على عناصر رئيسة ثلاثة:
ــ الوضع العراقي الذي ينذر بأن يتحول الى حرب أهلية فعلية.
ــ الوضع اللبناني الذي تأزم بشكل ميداني على رغم انحسار الدور الإسرائيلي في جنوب البلاد.
ــ الطريق المسدود الذي وصلت إليه السياسة الأوروبية تجاه الملف الفلسطيني منذ اعتماد الاتحاد الأوروبي سياسة المقاطعة ضد الحكومة الفلسطينية المنتخبة وتقزيم دوره بإرادته الذاتية.
وعلى رغم ما يردّده المسؤولون الأوروبيون وفي مقدمهم المسؤولون الفرنسيون ومنسق السياسة الخارجية الأوروبية خافيير سولانا من مواقف الدعم للحكومة اللبنانية الحالية من جهة، ودعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس من جهة أخرى، أثبتت هذه الاستراتيجية للمسؤولين الأوروبيين حدودها وحتى إفلاسها.
وتمثل التطورات في العراق الهاجس الفعلي والرئيسي للمسؤولين الأوروبيين لأنها كشفت حدود الدعم الأوروبي المقدم للولايات المتحدة في المنطقة عموماً ومنذ إطاحة النظام البعثي السابق في بغداد. وعلى رغم ان الدول الأوروبية لم تؤيد الحرب على العراق إلا بشكل متفاوت ومنفرد، باتت تعي حالياً ان تلك الحرب قلبت المعادلة الإقليمية برمتها وباتت تلقي بظلالها الفعلية على الملفين الشائكين الآخرين، وهما الملفان اللبناني والفلسطيني.
ويمثّل تنامي الدور الإيراني، برأي الأوروبيين، في العراق العنصر الحيوي الذي أسهم في قلب المعادلة، وفي لبنان وفلسطين حيث هناك أيضاً دعم ايراني لمجموعات معينة.
ويتمثل الخط الرسمي المتفق عليه حالياً بين الدول الأوروبية في مجال التعامل مع تطورات الوضع اللبناني في تكرار الدعم لحكومة بيروت الحالية برئاسة فؤاد السنيورة، والتذكير بالدور الإيجابي الذي أدّته تلك الحكومة منذ تأليفها، والتلويح بأن ما يجري حالياً من احتكاك بين الفرقاء اللبنانيين قد ينسف التوجه الدولي لإعادة إعمار لبنان وفق مؤتمر باريس 3.
ولكن بعض الدول الأوروبية الأخرى، وخاصة إسبانيا وإيطاليا وفنلندا والسويد التي لا تمتلك مصالح تقليدية في لبنان وغير مرتبطة بالثنائي الفرنسي الأميركي، تنظر الى الوضع من منظور إقليمي عام، وترى ان التركيز الفرنسي المتكرر على مطالبة سوريا بمنع زعزعة لبنان، وفق الخطاب الرسمي المتداول في باريس، يصب في دائرة مفرغة لأن الفرنسيين وحسب أحد الدبلوماسيين يقرون بشكل غير مباشر بثقل دور دمشق، ولكن من دون إدماجها في محاولات الحلحلة الإقليمية والدولية للوضع واعتبارها مخاطباً فعلياً يمكن التعويل عليه.
وقد تحول العديد من كبار المسؤولين الأوروبيين الى سوريا خلال الفترة الماضية في مبادرات تعكس تنامي العزلة الفرنسية وتراجع تأثير منسق السياسة الخارجية الأوروبية سولانا الذي استثنى بشكل متعمد محطة دمشق من تحركاته الإقليمية الأخيرة.
ويقول الدبلوماسيون الأوروبيون ان الهدف الرئيسي يجب ان يكون دعم الاستقرار الإقليمي لا تكريس وجهة نظر أحد الأطراف الأوروبية(أي باريس) في معاينة الموقف اللبناني تحديداً.
وتعتبر زيارة وزير الخارجية الألمانية فرانك فالتر شتاينمير الأخيرة لدمشق مؤشراً إلى توجه أوروبي عام بعدم الاستمرار في المقاطعة التقليدية لسوريا بتحريض فرنسي أميركي،
وحرصت المفوضية الأوروبية في بروكسل في طرحها الأخير المتعلّق بالطاقة على اعتبار سوريا شريكاً فعلياً ومهماً في مخططات تأمين إمدادات الطاقة الأوروبية في المستقبل.
وباتت الولايات المتحدة نفسها بحاجة الى مهادنة سوريا على الأقل في الفترة المقبلة بسبب الوضع العراقي.
وإن ألمانيا التي تولّت الرئاسة الدورية الأوروبية بدءاً من كانون الثاني الجاري لا تريد ان تمثّل المقاطعة الأوروبية لسوريا وبالشكل الذي عملت فرنسا على تمريره عائقاً يحول دون تنفيذ مشروعها السياسي المعلن تجاه المنطقة خلال توليها لفترة الرئاسة.
ويقول أحد الدبلوماسيين الأوروبيين إن ألمانيا ولكونها أكثر قرباً الى الولايات المتحدة من فرنسا ستسعى للتنسيق مع الدبلوماسية الأميركية أكثر مما ستفعله مع فرنسا طوال الأشهر الستة المقبلة.
ولا يحمل الألمان أو الأوروبيون عموماً أية أوهام، حسب المصدر نفسه، في مدى استعداد ايران للتعاون مع واشنطن في الملف العراقي، ولا مع الأوروبيين في الملف النووي. وهذا لا يحملهم على مواجهة إيران لكون ذلك يعد أمراً مستعصياً وحتى مستحيلاً، مثلما أكدته اجتماعات السداسي الدولي نهار الثلاثاء في 5 كانون الأول في باريس، ومعارضة موسكو أي تصعيد ضد الجمهورية الإسلامية.
ولكن الهدف سيكون تجريد إيران من بعض أوراقها في المنطقة عبر المساعدة على تطبيع الموقف اللبناني خارج الأطروحات الفرنسية الأميركية وعبر السعي لتحريك عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأخيراً عبر جرّ سوريا تدريجاً خارج دائرة النفوذ الإيراني وتمكينها من فرصة التطبيع الفعلي مع الاتحاد الأوروبي والشراكة الثنائية أولاً، ومع المجموعة الدولية ثانياً.
ويقود وزير خارجية إسبانيا موراتينوس هذا التوجه ويحظى بدعم عدة أطراف أوروبية التي ترى أن عزل الثنائي الإيراني السوري الواحد عن الآخر ولو بشكل تدريجي سيمكّن من تحريك الملفات الإقليمية المعنية، أي العراق ولبنان وفلسطين.
ويقول دبلوماسيون إن قوى إقليمية فاعلة تتقاسم هذا الرأي، من بينها تركيا التي تخشى من عواقب الوضع العراقي على مصالحها، ولكنها تميل أيضاً الى انحسار دور إيران في العراق وتتقاسم مع سوريا خشية تفتّت العراق ونشأة كيان كردي سيضرب الوحدة الترابية للدولتين.
وردّدت أوروبا منذ ربيع عام 2003 (تاريخ الحرب الأميركية البريطانية على العراق) أنها عملت على دعم الموقف الأميركي في المنطقة أو التغافل عن بعض جوانبه بهدف عدم إحداث قطيعة خطيرة بين ضفتي الأطلسي. وتكتّم الأوروبيون منذ تلك الفترة وتحت ضغط اللوبي الإسرائيلي والنفوذ الأميركي الأطلسي على خطط المحافظين الجدد لفرض الإصلاحات التي يرددونها بالقوة على دول الشرق الأوسط، وتغيير الأنظمة وفق روزنامة معروفة لم تجد معارضة تذكر في أوروبا بما في ذلك ما أُطلق عليه مشروع الشرق الأوسط الكبير أولاً ومشروع الشرق الأوسط الجديد ثانياً!
غير أن فشل السياسة الأميركية في العراق وانهيار الوضع الفلسطيني ودخول لبنان في دوامة خطيرة من النزاع، وتنامي قوة إيران واحتدام التوتر في سوق الطاقة وعدم لجم وتيرة الإرهاب الدولي، تعتبر جميعها عناصر حيوية تسمح للأوروبيين للمرة الأولى منذ ربيع عام 2003 بالبحث عن تحرك بديل وخاصة بعد هزيمة الجمهوريين في الانتخابات التشريعية الأميركية الأخيرة وأفول نجم قطب المحافظين وفي مقدمهم وزير الدفاع المتنحّي دونالد رامسفيلد.
وستكون الفترة القليلة المقبلة حاسمة أميركياً وأوروبياً وعربياً لمعرفة التطورات التي ستواجه المنطقة، ولكن يوجد إجماع على أن الملفات العراقية واللبنانية والفلسطينية متشابكة ومرتبطة وأن إحداث انفراج في أحداها سيكون له مردود إيجابي على الآخر..
* مدير مركز الدراسات العربي ــ الأوروبي