عصام نعمان *
كان العرب، وما زالوا، يعانون نكبة فلسطين وآثارها. اليوم يعانون نكبة العراق ونكبة لبنان ونكبة السودان ونكبة الصومال. هل يتحول كل قطر عربي في قابل الأيام مشروعَ نكبة؟
قد لا يكون هذا الاحتمال بعيداً أو مستبعداً في ظل العقلية العربية السائدة، والطبقات السياسية العربية المتحكمة، والهجمة الأميركية الصهيونية الشاملة. أجل، نحن أمة سائبة برسم النكبة والضياع.
من مظاهر النكبة المتعاظمة مجاميع المهجّرين والمهاجرين واللاجئين العراقيين التائهين في أربع جهات الأرض، ولا سيما النازحين إلى دول الجوار وفي مقدمها سوريا والأردن. ففي الأولى نحو 1,300,000 شخص وفي الثانية نحو نصف مليون.
هؤلاء جميعاً لم يكتسب واحدهم بعد صفة «اللاجئ» بمعايير القانون الدولي وأنظمة المفوضية السامية للأمم المتحدة، ولا يستفيدون تالياً من أية تسهيلات قانونية ومعيشية واجتماعية تنشأ منها. إنهم مجاميع من أفراد وعوائل وجماعات سائبة «مسؤولة» عن نفسها أو متروكة لقدرها. معظم الأغنياء من النازحين العراقيين قصدوا عمان وضواحي العاصمة الأردنية. وقد فرضت عليهم الحكومة أن يودع واحدهم المصارف الأردنية مئة ألف دينار ضمانةً ليتدبر إقامته. أما الفقراء من شتى الملل والنحل فقد قصدوا سوريا، ولا سيما البلدات والقرى المحيطة بدمشق.
للنكبة، أي نكبة، آثار سياسية واجتماعية. فنكبة فلسطين عام 1948 فاضت بآلامها ومآسيها ومضاعفاتها السياسية والاجتماعية إلى دول جوارها العربي وانعكست بآثارها جميعاً على نسيجها الاجتماعي وتركيبتها السياسية وبنيتها الاقتصادية. أوَليست هي الجذر الأساس لانبعاث الحركة القومية وفي مقدمها ثورة يوليو/تموز الناصرية في مصر، والانقلابات العسكرية «الناجح» منها والفاشل في سوريا والعراق والأردن ولبنان؟
إن مفاعيل مشابهة لنكبة فلسطين وانعكاساتها الانقلابية على دول الجوار تبدو الآن آخذةً في التبلور والتأثير في الدول نفسها. ومع ذلك فليس ثمة ما يشير، على العموم، الى ان العقل السياسي العربي والطبقات السياسية المتحكمة والقوى الوطنية الحية قد استوعبت أبعاد النكبة بل النكبات الجديدة وبدأت في مواجهتها. أليس أضعف الإيمان ان تطالب الحكومات المعنية المفوضية السامية للأمم المتحدة، والصليب الأحمر الدولي، وسائر المنظمات الإنسانية بأن تتحمل مسؤوليتها في هذا المجال؟ لقد بلغني ان اتحاد المحامين العرب شرع في تنظيم حلقة نقاشية عن الموضوع تنعقد في القاهرة أواخر الشهر الجاري، فعسى خيراً.
مع نشوء مضايقات ومشاكل سياسية واجتماعية للاجئين الضيوف والسلطات المعنية في دول الجوار المضيفة، طالعنا موقف سياسي لافت للرئيس السوري بشار الأسد. ففي مقابلة مع شبكة «إي بي سي» الأميركية للتلفزيون بثتها أول من أمس، رأى الأسد ان إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش لا تملك رؤية لإحلال السلام في العراق، بل «ان الوقت قد فات على قيامها بأي تحرك في هذا الاتجاه». وشدد على انه من دون جهود دمشق «فإن الفوضى في العراق ستمتد إلى سوريا وغيرها من الدول»، وانه بصرف النظر عما سيحدث جراءها فإن «المهم انها مثل الدومينو ستشمل الشرق الأوسط بكامله، وهذا يعني ان العالم بكامله سيتأثر بها».
من الطبيعي والمنطقي ان يعتبر الرئيس السوري بلاده لاعباً أساسياً في مسألة وقف الحرب «الداخلية» في العراق. فسوريا بحكم الجوار الجغرافي والانتماء القومي والأخطار العسكرية والأمنية القائمة والتهديدات الأميركية المتواصلة والضغوط والأكلاف الاجتماعية والاقتصادية الناجمة من هجرة العراقيين الكثيفة إليها، مضطرة الى التحرك لمواجهة هذا التحدي السياسي والأمني والاجتماعي والاستراتيجي الخطير، لكن سؤالاً منطقياً ينهض في هذا المجال: أي دور ترشّح سوريا نفسها له، ومن خلال أية رؤية وفي أي سياق؟
بات واضحاً ان إدارة بوش تتخبط في مستنقع فوضى غير خلاّقة كانت هي في أساس خلقها وتعميمها في معظم مناطق العراق. غير أنها تبدو مصممة اليوم على مباشرة خطة جديدة للخروج من حمأة الوضع الأمني المنهار، يُخشى أن تكون جزءاً من مخطط استراتيجي أبعد مدى يرمي إلى ترسيخ وضع تقسيمي باتت ملامحه واضحة. فهي وإن كانت تتحدث عـن عزمها ضرب الجماعات المتطرفة الشيعية والسنيّة، إلا ان ذلك، حتى في حال إنجازه، لا يحول غداته دون اكتشاف حقيقة ساطعة هي سيطرة جماعات وتنظيمات أقل تطرفاً ومن ألوان إثنية ومذهبية طاغية في مختلف المناطق العراقية. بعبارة أخرى، قد يغدو العراق بعد تنفيذ خطة بوش الجديدة أقل فوضى وأكثر أمناً، إلا انه سيبقى مرشحاً للانفجار مجدداً وعودة القتال والاقتتال معاً... القتال ضد الأميركيين وحلفائهم والاقتتال بين الجماعات العراقية الإثنية والمذهبية المتناحرة.
يزيد من أرجحية هذا الاحتمال ان ثمة تبرّماً عراقياً متزايداً في الأوساط السنيّة كما الشيعية من دور إيران الملتبس في العراق. فهي تناصر حكومة نوري المالكي المتعاونة مع الاحتلال من جهة، وتدعم الجماعات الشيعية المسلحة التي تتقاتل مع الجماعات السنيّة، والقومية التي تقاتل الاحتلال، من جهة أخرى. وقد تبدّى هذا الواقع المؤلم في منطقة الفرات الأوسط، وهي منطلق ثورة العشرين ومستودع التمرد الدائم التفجّر ضد الحكومات المتسلطة والمتعاقبة منذ ثلاثينيات القرن الماضي. إنه واقع إشكالي لا يمكن التوفيق بينه وبين تصدي إيران، على مستوى المنطقة، للهجمة الأميركية الصهيونية الكاسرة.
في وضع شديد التعقيد على النحو المارّ ذكره، لن تتمكن سوريا من تأدية دور فاعل. فهي حليفة لإيران في مواجهتها الناشطة للهجمة الأميركية الصهيونية من جهة، لكنها ملتزمة تأييد القوى القومية داخل العراق وفي المنطقة التي تقاتل أميركا وإسرائيل من جهة أخرى. ما العمل؟
إن القوى الحية في الأمة، وفي مقدمها منظمات المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان، وسوريا حكومةً وقوى وطنية وقومية، مطالَبةٌ بمباشرة حملة سياسية وشعبية واسعة للضغط على قادة الأنظمة العربية وحكوماتها في سياق الدعوة الى تغيير فاعل في موقفها من استراتيجيا إدارة بوش في المنطقة عموماً وحيال العراق وإيران خصوصاً... تغيير من شأنه تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية مترابطة ومتكاملة:
أولاً، اعتبار مواجهة إسرائيل ومن ورائها أميركا في فلسطين، ومواجهة أميركا وحليفاتها في العراق، أولويتين مطلقتين في هذه المرحلة، تُتّخذ في نطاق مقتضياتهما السياسية والاقتصادية والأمنية والدفاعية القرارات اللازمة وتُنفّذ في جميع المجالات.
ثانياً، مصارحة إيران بأن صدق مواجهتها للهجمة الأميركية الصهيونية عليها وعلى الإسلام والمسلمين مرهون بمدى استعدادها لقطع التعاون مع حكومة المالكي وجميع القوى العراقية المتعاونة مع الاحتلال الأميركي في العراق، وانتقالها تالياً، بكل الصدقية والجدية اللازمتين، للتنسيق والتعاون مع القوى الوطنية والقومية المنبثقة من شتى شرائح الشعب العراقي وقواه الحية والإقرار بعروبته وانتمائه القومي. ويقتضي ان تتعهد الدول العربية جميعاً، ولا سيما مصر والسعودية وسوريا، لإيران بأن وفاءها بالشروط السياسية والأمنية والاستراتيجية المبيّنة آنفاً يُلزم هذه الدول بوقوفها معها علناً، سياسياً وإعلامياً وحتى لوجستياً (وربما عسكرياً ممن يمكنه ذلك) ضد الهجمة الأميركية الصهيونية التي تستهدفها في الوقت الحاضر والمستقبل المنظور.
ثالثاًَ، إحياء معاهدة الدفاع المشترك ومباشرة تنفيذ أحكامها وموجباتها بإنشاء كيان اقتصادي دفاعي يضم، في مرحلته الأولى، دول الطوق (مصر وسوريا والأردن ولبنان) والسعودية بقصد الاستغناء عن الأمن الأجنبي المستعار والامتلاك التدريجي لمقاومات الأمن القومي الجماعي وأدواته وسط الاستقطاب الإقليمي المتعاظم بين إيران من جهة وإسرائيل المدعومة من أميركا ودول الحلف الأطلسي من جهة أخرى.
هل كثير على قادة الأنظمة، المهددة في أمنها ووحدتها وسيادتها وأرضها وثرواتها وشعبها ومصيرها، أن ينهضوا لمباشرة تحقيق الأهداف الثلاثة المنوه بها قبل فوات الأوان؟ وهل كثير عليهم أن يغتنموا مناسبة انعقاد القمة المرتقبة في مكة المكرمة ليستولدوا، بكل الوعي والجدية والصدق، إرادة التغيّر الاستراتيجي المطلوب لمصلحة العمل العربي المشترك والجاد؟
بهذا التغيّر النهضوي الفاعل نتجاوز نكبة العراق وبقية النكبات العربية المتناسلة.
* وزير لبناني سابق