نزار صاغيّة *
في إحدى أبرز قضايا المحكمة الدوليّة في لاهاي خلال الثمانينيات، أثبتت المحكمة تورّط الولايات المتّحدة الأميركيّة في اعتداءات على دولة نيكاراغوا. وإذا جاء الحكم مليئاً بالدروس القانونية في مجال الدفاع عن النفس والتدخّل في شؤون دول ذات سيادة، فإن أهمّ ما يقلق فيه، من وجهة نظر لبنانيّة، هو أنّ المحكمة أثبتت صحّة الادعّاء بشأن تورّط وكالة الاستخبارات الأميركيّة في نشر كتيّب بعنوان «تأثيرات نفسيّة في حروب العصابات» يحضّ عصابات «الكونترا» المناوئة لحكومة السندنيين، على ارتكاب أعمال إرهابيّة لغايات «دعائيّة» محضة.
فبعدما قرأت المحكمة أن هدف الكتيّب المعلن هو إعداد المحاربين «المدافعين عن الحرية» للقيام بعمليات «نفسيّة»، أي لاستعمال التقنيات الآيلة إلى اكتساب تأييد الناس، أفردت حيثيات طويلة لوصف هذه التقنيات. وأبرز ما نص عليه الحكم في هذا المجال مقتطفات مخصّصة لـ«الاستعمال الانتقائيّ للعنف لأهداف دعائيّة» تحضّ على ارتكاب نوعين من الجرائم:
ــ الأول صناعة الشهداء، بحيث قرأت المحكمة أنه «إذا أمكن، يقتضي توظيف مجرمين محترفين لتنفيذ اتفاقيات واضحة، تناط بهم بموجبها مهامّ محدّدة بدقّة متناهيّة بهدف إثراء القضية بالشهداء. ومن أبرز المهام الاندساس في التظاهرات والتحركات الجماعية بهدف إحداث مجابهة بين المتظاهرين والسلطات الأمنية على نحو يؤدي إلى إطلاق نار وتالياً إلى مقتل شخص أو أشخاص عدة، يتحولون إذ ذاك إلى «شهداء». وهي واقعة يقتضي استغلالها فوراً ضد النظام بهدف تعزيز الالتفاف الشعبي حول القضية وإطالة أمد الصراع».
ــ والثاني المحاكمات (شبه المحاكمات) الشعبية SIMULACRE DE PROCES بهدف تصفية بعض رموز السلطة، بحيث نقرأ مع المحكمة أنه «قد يفيد التخلص من أهداف مختارة كقضاة أو ضباط أمنيين لغايات نفسية، على أن يتم ذلك على أساس خطط مدروسة بشكل متقن. وفي هذه الحالات، يقتضي «تجميع» الفئات المهتمة من المدنيين بهدف إشراكهم في إدانة هؤلاء المستبدين، بعد اتخاذ أعلى تدابير الحيطة».
وقد خلصت المحكمة بنتيجة ذلك إلى إدانة الولايات المتحدة الأميركية بتحريض عصابات الكونترا على توظيف مجرمين محترفين بهدف إثارة الشغب في التحركات الجماعية وتالياً ردود فعل عنيفة تؤول حكماً إلى صناعة شهداء وأيضاً على تصـــــــــفية عدد من المــــــــسؤولين تبعاً لمحاكمات شعبية.
وبالطبع، لهذا الحكم قوّة نسبيّة فقط، بمعنى أنه ينطبق فقط على النزاع موضوع الدعوى (التدخل الأميركي في نيكاراغوا) وفقط بين أطرافها. وتالياً، فإن التذكير به لا يهدف إلى تسجيل المواقف ولا إلى تعزيز إحدى وجهات الاتهام السياسي في أي من الجرائم الحاصلة في لبنان، بل فقط إلى التنبيه إلى سابقة جدّ مقلقة في سجلّ وكالة الاستخبارات الأميركية، سابقة يصعب محوها أو تجاهلها، وخصوصاً لمن يؤمن بنزاهة القضاء الدوليّ، ولا سيما للذي يحيا في بلد دأب فيه أخيراً بعض كبار مسؤوليه على استغلال دماء الشّهداء بسرعة تقارب سرعة البرق وعلى تجميع الناس لإشراكهم في تحميل خصومهم السياسيين مسؤولية الدّم. الذي قرأ الميثولوجيا الإغريقية قد يخال أن آلهة الانتقام وجدت أخيرا قوّاداً.
* محام وباحث قانوني