عبد الحسين شبيب *
يوجد كمّ كبير من التحليلات الصحافية والمتخصصة التي تنشر وتبث يومياً عن مآل المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران في ما يتعلق ببرنامج الأخيرة النووي. تتوزع هذه التحليلات بين خيارين: شن حرب على طهران لوضع حد لطموحاتها النووية، أو الإقرار بالعجز والتعامل مع واقع أن إيران ــ أصبحت أو ستصبح في وقت قريب دولة نووية ــ أنتجت أو قادرة على إنتاج قنبلة نووية إذا أرادت ذلك. لا يستطيع أحد من الخبراء والمعلّقين أن يدّعي أسبقيته في حصرية هذين الخيارين، فالخطاب الرسمي الأميركي يقر بذلك. ولا يستطيع أحد أن يبتهج بأنه كان السبّاق إلى توقع الحرب أو توقع عدمها. كلا الأمرين يمكن حشد الأدلة التي تدعمه.
في حسابات العلوم العسكرية والسياسية الدفترية، بالأرقام والتفاصيل تقول النتيجة باستحالة وقوع الحرب. يبقى فقط الرهان على لحظة قرار غير عقلي تساهم نزعة المغامرة وعدم وجود امكانية دستورية لتجديد ولاية جورج بوش، وكونها الفرصة الأخيرة أمام المحافظين الجدد لاختبار نظرياتهم العسكرية، ووسوسات اللوبي اليهودي أو ضغوطه، ومصالح مصانع وشركات تجارة السلاح الأميركي، كلها برأي البعض قد تدفع بوش الى «حفلة جنون» يملك قرار بدئها ولا يملك قرار إنهائها. أيضاً هذا ليس اختراعاً يحتاج الى براءة ملكية فكرية وصكّها.
الشيء الذي يفترض البدء ببحثه أو دراسته هو محاولة رسم مشهد ما بعد الحرب أو ما بعد العجز عن خوضها. أي عالم سينشأ بعد فترة وجيزة من الزمن مداها يمتد بين اللحظة الراهنة حداً أدنى ومغادرة جورج بوش وفريقه حداً أقصى، وهو الوقت المتبقي لخيار الحرب؟
يحتاج هذا الأمر إلى أدوات تحليل منهجية تمكّن من تكوين تصور لعالم تحصل فيه مثل هذه المغامرة. ويفترض البحث عن طرق تفكير جديدة تساعد على تقدير الوضع الناشئ، لأن طريقة تفكير الأطراف المعنية تقع خارج الأطر المعروفة. هنا بعض الأمثلة التي تظهر خللاً في قواعد التفكير المتعارف عليها في مقاربة الموضوعات.
مثلاً، يقول بعض الدبلوماسيين الغربيين في طهران (تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية بتاريخ 4/2/2007) «إن لديهم شعوراً بأن الدول العربية في المنطقة هي التي تؤجج الخلاف عبر دفع الأميركيين الى مواجهة مع خصم لا يجرؤون على مواجهته علناً في وقت يبدو فيه ان ايران توسع نفوذها بخطوات محسوبة ومن دون ترك أثر». هل هذا التفكير عقلاني؟ إنه في كلتا الحالتين يعطي تصوراً عن حال بعض هذه الدول العربية ــ إذا صح هذا التحريض ــ وعن وضعها الصعب في حال حصول الحرب، وعن وضعها الأصعب إذا لم تقع لأنها تسلك طريق التآمر على ايران. فارتدادات الحرب وعدمها ستكون كبيرة عليها: في الحرب سيكون الدخول في المجهول، وفي السلم اعتياد التعايش مع دولة نووية قوية.
مثل آخر يمكن ان يساهم في تركيب بعض ملامح الصورة. أوصى تقرير بيكر ــ هاملتون إدارة بوش بإقامة حوار بنّاء مع كل من ايران وسوريا لحل المأزق الأميركي في العراق. كيف يُناقش الخيار العسكري ضد إيران، والولايات المتحدة تحتاج إليها لإنقاذها حسب تشخيص الطبيب الذي انتدب لتحديد الدواء، وهي لجنة من الخبراء المرموقين وذوي التجارب المعتبرة؟ كيف ستُضرب ايران والأميركيون يقولون يومياً إنها تخوض ضدهم حرباً استباقية على الساحة العراقية وتوقع في صفوفهم أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى والخسائر المادية والمعنوية؟ إذا كان هذا يحصل قبل الضربة فكيف بعدها؟ يمكن حينها ان نقول ان كلمة الجحيم قد لا تفي بالغرض نظراً إلى طول باع اليد الإيرانية في العراق حسبما يقول الأميركيون أنفسهم!
في الحسابات التقليدية، إيران في وضع أقوى من خصومها. ايران تلعب في ساحتها وساحات الآخرين، أما الولايات المتحدة فتأتي من قطب آخر لضرب دولة من دون مسوّغ قانوني أو واقعي.
لدى الأميركيين بنك أهداف «وهمي» ــ أو على الأقل غير مضمون ــ يعتقدون أنه سيصفي عناصر القوة الإيرانية التقليدية وغير التقليدية (منشآتها النووية). أما لدى الإيرانيين فهناك بنك أهداف واسع ومضمون كيفما ضربوا يلحقون خسائر بخصومهم.
أيضاً أسقطت ايران عنصر المفاجأة وهي الآن في حالة جهوزية لاحتمال الاعتداء عليها في أي لحظة. يعني ذلك انها وزعت عناصر قوتها لاستخدامها ولحمايتها، بحيث لا تكون هدفاً سهل المنال. هذا عنصر مهم في الحروب فقد الأميركيون ميزاته.
النقطة الأخرى التي تساق في إطار استعراض تقنيات الضربة، هي الحديث عن سلاح الجو. هذا السلاح غير قادر على حسم المعركة، بسبب الفشل الاستخباري أو القصور الاستخباري، والمسافات الطويلة، وأنظمة الدفاع الجوي المضادة للصواريخ التي اختبرتها ايران أخيراً بنجاح فحسب، بل بسبب إضافي ومهم هو ان حرب لبنان الأخيرة أعادت فاعلية سلاح الجو الى حجمه التقليدي: مؤازرة سلاح المشاة الذي لن يتحرك في الحرب المقبلة. خلاصة هذا الاستنتاج بسيطة: يقول الاسرائيليون والأميركيون ان نمط تفكير حزب الله العسكري مستمد من المدرسة الايرانية. اذا كان حزب الله أسقط في عدوان تموز فعالية سلاح الجو والصواريخ البعيدة المدى التي استخدمت، فإن أساتذته ــ حسب التشخيص الأميركي ــ سيكررون النتيجة نفسها. يعني ذلك أن هذه الحرب لن تكون نظيفة أو معقمة كما حصل في حرب الخليج الأولى.
أما الرهان على تفكيك البيئة الشعبية الايرانية وعزلها عن القيادة ــ النظام السياسي جراء الحرب فيبدو تبسيطياً الى درجة لا تستقيم مع الرغبة المشتركة لدى الايرانيين بمختلف انتماءاتهم السياسية في ان تكون بلادهم قوية وتمتلك مختلف عناصر القوة ومنها البرنامج النووي الذي تسعى واشنطن لتدميره.
من الواضح أن الولايات المتحدة تكابر في الاستسلام لواقع جديد مفاده أنها لم تعد قادرة على التفرد في إدارة الشؤون العالمية، وأنها وإن كانت قوة عظمى فإن المرحلة التي اختبرت فيها قدرتها على مصادرة جميع الأدوار الدولية والإقليمية لمصلحة هيمنتها المستجدة بعد انتهاء الحرب الباردة انتهت. فالنفوذ الاميركي اليوم لا يشبه ذلك الذي شعر به العالم غداة سقوط الاتحاد السوفيتي. الولايات المتحدة تعيش حالياً مساراً تراجعياً يصبح معه الحديث عن توجيه ضربة عسكرية لبلد مثل إيران ضرباً من الخيال، أو على الأقل ضرباً من الجنون، تقول سير الشعوب إنه من طبائع البشر باعتبارهم متحكمين بمسار الأحداث التي يصنعونها، وإنه ضروري أو طبيعي لرسم الحد الفاصل الذي يبدأ من عنده تأريخ بداية مرحلة الانهيار أو العودة إلى الحجم الطبيعي لأي إمبراطورية يمتد نفوذها خارج حدودها الجغرافية.
الإمبراطورية الأميركية بهذا المعنى ليست خارج مقتضيات سنن التاريخ، فلها صعودها ولها ركودها ولها هبوطها أو تراجعها، أو على الأقل إخلاؤها ساحات تنشط فيها لقوى أخرى ناشئة يجب ان تعبّر عن نفوذها المستمد من إمكانات وقدرات عديدة تتمتع بها.
أحد مظاهر بدء تراجع القوة الاميركية هو ذلك الخطاب الجريء بكل المعايير الذي تعبّر عنه القيادة الايرانية هذه الأيام. مرشد الجمهورية الاسلامية آية الله السيد علي الخامنئي يهدد أمام ضباطه بأن ايران ستضرب جميع المصالح الاميركية في العالم اذا تعرضت لاعتداء اميركي. يعني أن مجال الرد الايراني سيصل إلى حيث يمكن ان تطال الذراع الايرانية مباشرة أو بالواسطة.
قائد الحرس الثوري الإسلامي يحيى رحيم صفوي يهدد بأن قواته ستضرب جميع القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة.
يعني هذان الموقفان أنه لا خطوط حمر في المواجهة العسكرية إن وقعت، فالمصالح والقواعد العسكرية من المشرق الى المغرب مروراً بالخليج، الى أفغانستان، الى حيث أمكن، ستكون في مرمى النيران الايرانية الصاروخية وغير الصاروخية (العمليات الأمنية وغيرها)، في الدول الصديقة لإيران والدول غير الصديقة.
اذا حصلت الحرب فستستخدم ايران كل قوتها ولن يكون هناك أي محظور على استخدامها ضد أعدائها. وسواء هزمت ايران كما يعتقد البعض، أو انتصرت، فالمواجهة ستؤسس لبيئة إقليمية مختلفة، قد تكون حال العراق الراهنة نزهة أمامها. وبالتأكيد فإن نظامي العلاقات الإقليمية والدولية سيشهدان تغييرات جذرية. فالولايات المتحدة لن تخرج من الحرب كما كانت قبل مباشرتها من حيث القوة، بل أضعف بكثير، والنظام العالمي الجديد الذي سينشأ لن تكون فيه الرقم الأول. وايران لن تخرج من المعادلة الإقليمية إن لم تتصدرها.
واذا لم تقع الحرب فإن نظاماً إقليمياً جديداً ودولياً سينشآن أيضاً، وسيحتّم على الولايات المتحدة وحلفائها ان يتعايشوا فيه مع فكرة ايران نووية. عندما تصل ايران الى نقطة اللاعودة في برنامجها النووي ستكون تلك النقطة بالنسبة إلى أطراف أخرى بمثابة نقطة العودة الى الأحجام الطبيعية في العالم والمنطقة، لأن توازنات القوى التي ستنشأ ستجرد دولاً كثيرة من ميزاتها الآحادية.
* صحافي لبناني