حبيب فياض *
شكلت إيران، مدى 28 سنة من عمر ثورتها، نموذجاً فريداً بين الدول المتمردة على الواقع الدولي القائم على سياسة القوة والرضوخ للأمر الواقع، حيث استطاعت في آن ــ على رغم انتمائها الى العالم الثالث ــ أن توفر مقومات الاستناد الى مبادئها الثورية والدينية المعاكسة لما هو سائد ومألوف سياسياً على مستوى المنطقة والعالم، وأن تنتج على الدوام عوامل استمرارها وديمومتها، على رغم الأخطار التي حدقت بها وما زالت، بدءاً من الحرب العراقية ــ الدولية التي شنت عليها، عشية نجاح الثورة، وصولاً الى التهديدات الأميركية الجدية الراهنة التي تتعرض لها على خلفية ملفها النووي وغيره.. إنه فن الجمع بين الصلابة والمرونة الذي يتقنه الإيرانيون إذ يجيدون التمييز بين الثابت والمتغير وفق رؤية أيديولوجية شاملة تتركز على ثابت أساسي هو حفظ النظام وتطويره والدفاع عنه.
ولعل أكثر ما يلفت في تجربة الثورة الايرانية، قدرتها على الحفاظ على الاهتمام المتوازن بين الداخل الذي يشكل بنية النظام بكل مجالاته السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية... والخارج الذي ظل باستمرار مصدر خطر يتربّص بها ويتحيّن الفرص لمحـــــــــــاصرتها والانقضاض عليها. فقد نجـــــــــــــح المسؤولون الإيرانيون، في مختلف المراحل، في إعطاء الداخل ما يستحقه من إعادة بناء وتنمية متعددة الجوانب، من دون ان تشكل شعـــــــــــارات مواجهة الخارج مبرراً للانصراف عن الهم الخارجي، بل على العكس فقد شكلت التحديات الخارجية دافعاً إضافياً للعمل على البناء الداخلي في ظل حاجة ملحة إلى الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن الخارج.
فداخلياً، من الواضح ان إيران لم تستطع الوصول الى كل طموحاتها على أكثر من صعيد، وذلك لأسباب عديدة لا يتسع المقام لذكرها والخوض فيها. لكن، من دون شك، ما حققته إيران في ظل ثورتها يتخطى ما لم تحققه إلى الآن.
فالمسار العام الذي مضت به الحكومات الإيرانية المتعاقبة كشف عن إصرار وثبات على بناء الدولة وتحصينها بدءاً بعهد رفسنجاني الذي قاد عملية إعادة البناء وإطلاق عجلة التنمية الاقتصادية بعد ثماني سنوات من الحرب التي دمرت كل شيء، مروراً بولاية الرئيس خاتمي الذي نجح الى حدٍ كبير في إدارة التنمية السياسية وإطلاق التعددية الحزبية وحرية الصحافة وتداول السلطة وثقافة الاختلاف... وصولاً الى الرئيس أحمدي نجاد الذي وصل الى السلطة على خلفية وعوده الانتخابية بإطلاق التنمية الاجتماعية وإزالة مظاهر الفقر والبطالة وتحقيق العدالة في توزيع الثروات، حيث بدأت حكومته أخيراً بالعمل على تحويل هذه الوعود الى برامج عملية، بعدما أخذت بعض الأصوات الداخلية ترتفع متهمة أحمدي نجاد بالتقصير في هذا المجال الذي يبقى معياراً أساسياً في الحكم على مدى نجاح تجربته الرئاسية ومؤشراً إلى فرصته في الانتقال الى ولاية رئاسية أخرى.
أما خارجياً، فقد نجحت إيران في التعامل مع التحديات التي تواجهها وأجادت في اتخاذ موقعية تتيح لها ان تشكل موازناً إقليمياً للولايات المتحدة التي لم تفلح، حتى اللحظة، في احتواء إيران أو إضعافها، بحيث باتت المنطقة مساحة تجاذب بين الطرفين بنحو لا يسمح بوجود طرف ثالث لا يصطف خلف أحدهما، وبنحو أيضاً يصح القول معه إن طهران هي الحاضر الأول في الإقليم مقابل واشنطن سواء اتجهت الأمور نحو التسوية والحلحلة أو نحو التصعيد والصدام.
تقوم فلسفة الثورة عند الإيرانيين على عدم كونها مجرد حدث تاريخي ينتهي بمجرد الوصول الى السلطة، بل هي مسار لا بد من سيرورته وتواصله في سبيل ديمومته، وهذا ما يفسر ويبرر حالة المصالحة الإيرانية بين الثورة والدولة إذ تعكس هذه الأخيرة مرحلة متقدمة من حياة الثورة ومؤشراً إلى اقترابها من أهدافها وغاياتها.
ليست الصدفة هي التي جعلت من إيران دولة منيعة اقتصادياً، وقوية عسكرياً ومحورية سياسياً، ومنتجة ثقافياً وفكرياً، هذا فضلاً عن تقدمها الصناعي والعلمي الذي أتاح لها أخيراً دخول عالم الاستنساخ وسيتيح لها قريباً غزو الفضاء.
في هذا الخضم، يبقى السؤال المؤسف الذي يراود كل واحد منا:
أين نحن العرب من كل ذلك؟
* كاتب لبناني