خليل حسين *
سنتان ولبنان بلا رفيق، فمن أين نبدأ والتاريخ يتلاشى، والجغرافيا تضيق بأصحابها، وكأن الزمن يهرب بنا إلى الوراء والمساحات تضج ذرعاً بمن يدبُّ عليها، الكل يسأل عن رفيق رحل عنه أو أُخذ منه، ويتردد الصدى بداخل أجوف لا معنى له، وتسكن الحدقات عن الحراك وترتخي الجفون بأهداب تتوسل الاتكاء على قلب حريري. وطن لا زال يناديه. رجل دولة لم تَسعهُ، ورجل سلطة لم تذعِن لهُ، حاكم حكيم، طيب النفس كريم، كلمته حد سيف في الوغى وقراره حسام إذ انبرى. جال في أصقاع الأرض مغربها ومشرقها ،فكَبُرَ لبنان به واتكأ شعبه على طمأنينة افتقدها، فكوَّن لبلده رصيداً بين الدول وشعر كبيرها كما صغيرها بأهمية دوره وموقعه. فلبنان لم يعد كما كان وبات دائماً في الحسبان. وحَّد شعباً مزقته الحروب وفرقته التدخلات، علَّم أجيالاً وبنى مؤسسات. هاجسه وحدة لبنان وما يحفظها. حمى المقاومة برمش العيون، فأمَّن لها غطاءً دولياً وجَهدَ في لمِّ اللبنانيين حولها. كسر خطط التوطين وفرض قرار اللبنانيين. عمَّر بشراً في الثمانينيات، وعمَّر حجراً في التسعينيات، ونقل لبنان إلى الألفية الثالثة موحداً مستقراً آمناً، فأين نحن اليوم؟
سنتان من الظلام غابت فيهما الحقيقة أو غُيبت. دولة ومؤسسات واهنة، شعب تباعده الأهواء وتهدده الأنواء، وحدة وطنية في مهب الريح، مصير مجهول وأمل مقتول. قضايا مركزية باتت تلوكها الألسن بمشاعر استفزازية، لا قيَم حضارية ولا إنسانية، أمور فلتت من عقالها، قلة تعرف ماذا تريد وكثرة تختبئ بالشعارات لتستفيد. لبنان بشعبه ماضٍ إلى مصير محتوم يعيد كرَّة زمن غابر دَفع فيه الكثير الكثير. في الذكرى الثانية لغيابه ثمة أسئلة تُطرح وتنتظر أجوبة، ما هي الأهداف الرئيسة للاغتيال؟ وما هي سبل المواجهة لدرء تداعياتها؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التي لا تعد ولا تحصى، إلا أن أهمها على الإطلاق، هل يرضى الرئيس الشهيد بما هو عليه لبنان الآن؟.
ثمة أهداف وخلفيات كثيرة ومتنوعة يمكن أن تسجل في عملية الاغتيال وأبرزها:
ــ أن الحجم السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي الذي تمتع به الرئيس الحريري على الصعيد الداخلي قد اثر بوضوح كثيراً على التركيبة السياسية اللبنانية، بحيث بات من الصعب إعادة التوازن إلى نظام الحكم في لبنان في غياب رجل بهذا الحجم والدور، وفي ظل غياب قطب سياسي قادر فعلياً على النهوض بمثل هذا الدور داخلياً وخارجياً. وبالتالي إن نظام الحكم في لبنان الذي استند إلى اتفاق الطائف والذي كان الرئيس الحريري احد مهندسيه، بات في دائرة الخطر، بعد سلسلة عمليات التصويب عليه تصريحاً وتلميحاً، وصولاً للدعوة التي سمّاها البعض العودة إلى الجذور، أي إلى ما قبل اتفاق الطائف، وهذا ما كان الرئيس الحريري يقف ضده بقوة ويدعو إلى التمسك بالطائف نصاً وروحاً داخلياً وخارجياً. وهذا ما ميّز به نفسه عن باقي أطراف المعارضة.
ــ إن تغييب الرئيس الحريري في تلك الظروف أثر سلبياً على الوضع اللبناني بالذات، فالفرز بات واضحاً كما أسلفنا، وإسقاط اتفاق الطائف يعني العودة إلى الجذور كما يسميه البعض، وبالتالي إقحام لبنان في دائرة المجهول كما العراق وغيره، وبات مصير الكيان اللبناني، موقعاً ودوراً، تحت وطأة علامات استفهام كثيرة لا يملك أحد إلا الإجابات السوداء عليها.
ــ إن وصول الرئيس الشهيد إلى السلطة في عام 1992 ترافق مع مشاريع السلم في المنطقة بدءًا من مؤتمر مدريد والمفاوضات الثنائية والمتعددة وما أعقبها من مشروع الشرق الأوسط الجديد وما أثير من دور للبنان في المنطقة بعد السلام، واليوم هل يمكن الربط بين تغييب الرئيس الحريري ومشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تقوده واشنطن في المنطقة؟ وهل يمكن التساؤل أيضاً عن دور لبنان وموقعه في هذا المشروع إذا كتب له النجاح في غياب الرئيس الحريري؟ وبالتالي هل كان الرئيس الحريري عقبة أمام هذا المشروع، أم أن تغييبه كان بمثابة وسيلة لخلط الأوراق في المنطقة لتمريره؟ وما هي حدود التوافق والاختلاف بين باريس وواشنطن على دور لبنان المستقبلي؟ وما هي حدود الحجم الذي يمثله الرئيس الحريري للأحلام الفرنسية القديمة الجديدة في المنطقة؟
ــ ومثلما هو صحيح أن الظروف التي وصل بها الرئيس الحـــــــــــريري إلى الحكم كانت تتطلب شروطاً محددة في الـــــــــــــداخل اللبناني، فقد تمكن من مواءمة وضع لبنان ودوره الاقتصادي الصاعد ودور المــــــــــــــقاومة في تحرير الأرض، ومزج ببراعة لافــــــــــــــــــتة بين فكرتي «هونغ كونغ» و«هانوي»، فحمى المقاومة وفــــــــــــرض اتفاق نيسان 1996 وأكد شرعية عمل المقاومة، بل بدا احد أعمدتها وحماتها، وهذا ما كشفته وأكدته بعض وقـــــــائع جلساته المتعددة مع السيد حسن نصر الله،فمن يكون المستفيد من اغتياله سوى المتضرر من هذا التقارب إن لم نقل التطابق في المواقف مع المقاومة.
ــ لقد شهد لبنان نقلة نوعية إبان فترة حكمه، جيل متخصص بكامله، ونهضة إعمارية لافتة مترافقة مع إحياء ادوار لافتة للبنان في المنطقة، مشاريع استثمارية واسعة وجذب لرؤوس أموال واعدة. باختصار وضع منافس بل مهدد لوضع إسرائيل في المنطقة، فمن يكون المستفيد من اغتيال المشروع الذي أسسه وعمل عليه الرئيس الشهيد.
ــ كان الهمَّ والهاجس الأساس حماية الوحدة الوطنية والكيان، الأمران الظاهران في اتفاق الطائف عبر هوية لبنان وموقعه ودوره العربي. والحفاظ على الكيان يستدعي حماية الوحدة الوطنية الداخلية وشروطها وأهمها توازن تركيبته الاجتماعية، الأمر الذي استدعى منه رفض التوطين. وأيضاً من المتضرر من هذه المواقف والمشاريع؟ أليست هي إسرائيل الباحثة دوماً عن حل مشاكلها في لبنان وعلى حسابه؟.
وأين نحن اليوم في غياب رجل بوزن الرئيس الشهيد؟ بعد سنتين تحاول كل القوى المعادية لمشروعه في الداخل والخارج تمرير ما تستطيع من مشاريع مشبوهة، الأمر الذي يستدعي طرح العديد من التساؤلات والمقاربات منها:
لو كان الرئيس الشهيد حياً فهل كانت إسرائيل استطاعت تنفيذ عدوانها على لبنان في تموز الماضي؟ وبالتالي هل بإمكان الولايات المتحدة وإسرائيل أن تفرضا ما تحاولان فرضه من شروط وضغوط على لبنان؟ وللتذكير أيضاً: ماذا تمكنت إسرائيل من فعله بعد عدوان 1993 (تصفية الحساب) و1996 (عناقيد الغضب)؟ ألم يشرّع عمل المقاومة باتفاق دولي وباعتراف إسرائيلي؟ وماذا عن الآن وكيف تتصرف الأكثرية التي تدّعي خط الرئيس الشهيد؟ كيف تحاول استثمار القرار 1701 لنزع سلاح المقاومة؟ وهل يرضى هو بذلك؟ كيف تصرف الرئيس الشهيد إبان مجزرة قانا الأولى 1996 وكيف تمَّ التصرف في المجزرة الثانية 2006؟ هل كان الرئيس الشهيد يقبل أن يجتمع مجلس وزراء الخارجية العرب في بيروت تحت الحصار الإسرائيلي وبإذنه لدخول الوزراء وخروجهم؟ وهل يقبل الرئيس الشهيد أن تدار «المعركة الدبلوماسية» مثلما يحلو للأكثرية تسميتها بالاستجداء والبكاء والعويل؟.
هل يقبل الرئيس الشهيد أن يُحكم لبنان بهذا الفريق؟ وهل يقبل ترؤس حكومة تفتقد الشرعية الدستورية؟ وهل يقبل الرئيس الشهيد بتقوقع رئاسة مجلس الوزراء وراء أسلاك شائكة؟ أليس الرئيس الشهيد من آثر الاعتذار على التكليف في عام 1998 احتجاجاً على احتساب الأصوات المؤيدة له والتي لها دلالات تتعلق بحجم التمثيل والمشاركة؟ هل يقبل الرئيس الشهيد بأن تختزل رئاسة الحكومة بطائفة وهي السلطة التنفيذية لكل لبنان؟ وهل كان الرئيس الشهيد ليقبل التمسك بهذا المنصب وهو أول من علق لافتة على مدخل رئاسة الحكومة «لو دامت لك لما وصلت لغيرك»؟
لقد شوه بعض الورثة السياسيين غير الشرعيين مشروع الرئيس الشهيد وباتوا اليوم يتصرفون بدون خجل أو وجل استناداً إلى ما رفضه وحاربه. ينفخون بنار الفتنة المذهبية ويوقدون نارها على حساب الوحدة الوطنية. يتظللون بشعارات جوفاء ملّتها الألسن والعقول. سيادة تنتهكها إسرائيل يومياً وبحماية دولية. حدود مستباحة ترسّمها وتحددها قوات دولية ــ إسرائيلية بإيعاز من رسائل «رسمية». حرية مكبلة بشروط سياسية مالية ــ اقتصادية. واستقلال مرهون بالتزامات كيانية، فهل يقبل الرئيس الشهيد بظلامة بعض ورثته؟ بالتأكيد لم ولن يقبل بما يجري للبنان وفيه، باسمه وبإرثه الوطني الكبير.
ومهما يكن من أمر، سيظل الرئيس الشهيد علامة فارقة في تاريخ لبنان، ونقطة فاصلة في خريطته السياسية. وبصرف النظر عن المخطط والمنفذ والمستفيد من اغتياله، بل من تغييبه في هذه الظروف بالذات، يبقى لرحيله أثر قد تمر سنين كثيرة قبل الإجابة عليها بدقة نظراً للموقع والحجم الذي أخذه والدور الذي قام به في الحياة السياسية اللبنانية والإقليمية والدولية. وهو بهذا المعنى ليس مجرد رجل سياسة ودولة مر في تاريخ لبنان السياسي المعاصر، بقدر ما هو حقبة سياسية من الصعب ملؤها بسهولة وبوقت يسير. ومن هنا تطرح علامات استفهام كثيرة عن مستقبل لبنان موقعاً ودوراً وحتى تركيبة اجتماعية سياسية قابلة للحياة، ولا نجد غضاضة في القول إن الفراغ الذي تركه أرخى بظلال كثيفة على مستقبل الكثير من المواقع السياسية في المنطقة.
إن تكريم رجل بهذا القدر من المكانة مرتبط بالمضي في تحقيق ما حلم به لوطنه وشعبه، وبالتالي تضافر كل الجهود الصادقة لإعادة نقل لبنان إلى بر الأمان مثلما نقله الرئيس الشـــــــــــــهيد. وهذا يتطلب مكاشفة صريحة بين مختلف شرائح المجتمع اللبناني بشأن سبل إعادة ترميم الوحدة الوطنية، وهذا الشرط مرتبط بثابت آخر وهو الكشف عن حقيقة الاغـــــــــــــــتيال وأهدافه ودوافعه علَّ في ذلك بداية جامعة على مختلف القضايا المصيرية. لقد بات لبنان في عين العاصفة ويــــــــــتطلب وضعه مواقف وخيارات بمستوى خيارات ومواقف شهيد الدولة، فهل يعي من بيدهم الأمر خطورة ذلك؟ إن اخطر الزلازل تلك التي تضرب الزمان لا المكان، فهي تمحو ذاكرة الشعوب عندما تفتقد قادتها أو تنقلب على قيمها، فيما المكان قابل للتطويع كما نريد.
إن رجلاً وقف في وجه الأعاصير دفاعاً عن قيَم لبنان وأسباب منعته وقوته، يجب أن يُكرم مكرمة الشهداء، فهو لم يسأل يوماً عن خرائط الجغرافيا ولا التاريخ لأن إيمانه بوطنه وشعبه لا يحده المكان ولا الزمان، فأي معنى للحدود وهو الذي لفَّ العالم بأسره بحثاً عن سبل حماية وطنه؟ فكم نحن اليوم بحاجة لحكمتك في حمأة الهوج الذي نعيش، وكم نحن اليوم بحاجة إلى بعد نظرك وسعة علاقاتك، إننا بحاجة لكل شيء ولا نملك شيئاً، نحتاج لرفيق صادق إذا وعد وفى، نحتاج لرفيق كلمته خيار وقرار، من أين ننهي فراغاً في المكان والزمان صعب النطق فيه؟
* أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية