عبد الإله بلقزيز *
ثبت بقوة الاشياء والوقائع أن الذين قرروا اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، قبل عامين، كانوا يعرفون جيداً انهم اختاروا توجيه الضربة الاستراتيجية للكيان اللبناني وللتوازنات التي رست عليها الحياة السياسية فيه منذ انتهت الحرب الداخلية. لا شيء كان يمكنه ان يقلب الامور في لبنان، سافلها على عاليها، وأن يطيح المحصلات ويعيد النظر في العلاقات والاتجاهات والخيارات، غير جريمة سياسية بحجم تلك التي اودت بحياة شخصية وطنية من طراز الرئيس الحريري.
تقاس الامور بنتائجها كما يقال، وحين نقيس الجريمة بما نجم عنها من مترتبات وتبعات، ندرك حينها كم كان القاتل عليماً بهول وفظاعة ما سيفضي اليه فعل من قبيل اغتيال الرئيس الحريري. نعم، كان عنوان الجريمة اغتيال رجل، لكن تأكد ان وراء هذا الهدف المباشر هدفاً ابعد مدى من ذلك: اغتيال وطن. بهذا المعنى اتت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لتمثل جريمة في حق لبنان واللبنانيين جميعاً. وهي كانت كذلك بمعنيين:
1 ــ بمعنى انها غيبت رجلاً كان للبنانيين جميعاً، من كانوا من انصاره وجمهوره منهم، ومن كانوا في جملة حلفائه، ومن كانوا في عداد خصومه السياسيين المختلفين معه في الرأي وفي السياسات. أصيب هؤلاء جميعاً في رجل عرف باعتداله السياسي وانفتاحه على الجميع، وبحرصه الشديد على الوحدة الوطنية، وجده وكده في معركة الاعمار بعد الحرب، فأتى تغييبه ــ من خلال الجريمة النكراء ــ ليمثل بهذا المعنى خسارة وطنية فادحة للبنان كله.
2 ــ وبمعنى انها (جريمة) ادخلت البلد في دوامة من الازمات السياسية الداخلية تهدد بإطاحة البقية الباقية من عناصر التماسك فيه، ووضعت استقراره السياسي وسلمه الاهلي امام امتحان لا سابق له في العسر منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وفتحت طريقاً سالكاً نحو اختراقه سياسياً وأمنياً من الخارج.
لبنان ما قبل 14 شباط/ فبراير 2005 غير لبنان ما بعد هذا التاريخ المشؤوم. خلال العامين المنصرمين، فقد لبنان الكثير من مناعته الوطنية وتوازنه الاقتصادي وثروته البشرية وأمنه الكياني. هزه انشقاق داخلي بالغ التصديع لاجتماع وطني كان هشاً باستمرار وحساساً لأبسط متغير يدخل في نسيجه، لكنه أتى هذه المرة ــ تصديعاً يخشى عسر رأبه، واستبيح امنه الوطني بغزوة (جوية) اسرائيلية ازهقت ارواح مئات اللبنانيين وشردت ما يزيد على ربع السكان من ديارهم وأعملت هدماً وتدميراً في كل ما بناه رفيق الحريري لسنوات. ورزئ في خسارة افضل رجالات السياسة والصحافة فيه برصاص غادر كان يصوب على وطن وعلى امن واستقرار. ثم ما لبث التنازع السياسي فيه ان ركب مركب التجييش والتحشيد بمفردات الملل والنحل وما دونها من عصبيات ليأخذ الشارع، الى مواجهات حمالة ممكنات... ومستحيلات!
ليس يعرف حتى الآن من هو قاتل الشهيد رفيق الحريري بالاسم، فالتحقيق الجنائي لم يقفل بعد، لكنه قابل للتعريف ــ ولو لأن الفعل يدل على الفاعل (على مثال قول ابن رشد أن الصنعة تدل على الصانع في معرض بيانه الصلة بين الله والعالم). ذلك أنه لا احد يمكنه ان يجد مصلحة في اغتيال الرئيس الحريري إلاّ اذا وجد مصلحة في النتائج السياسية المترتبة على ذلك الاغتيال من نوع هذه التي يشهدها لبنان منذ عامين وأخطرها الانقسام الداخلي. والقاتل يعرف أن لبنان يكون ضعيفاً كلما انقسم، فيفيء قسم من بنيه (= من سياسييه) الى قوة خارجية تحميه من قسم آخر يحالف قوة (خارجية) اخرى غيرها. وهو قطعاً يعرف أن نفوذه في هذا البلد انما يتعاظم امره كلما اتسع الخرق في النسيج الداخلي وارتفع في الناس والنفوس منسوب الهواجس من افق لا تتبين له ملامح! وهل حصل في لبنان غير هذا؟ وهل تحصل للقاتل غير ما اراد؟!
الحقيقة الوحيدة التي لا يزيغ عن محجمها البيضاء الا هالك، ان لا مصلحة لأحد من اللبنانيين في هذه الجريمة النكراء التي اودت بحياة الرئيس الراحل رفيق الحريري، وأن الوبال كل الوبال على لبنان من وراء تلك الجريمة وبسببها، من هذه النقطة ــ ومن هذه القناعة ــ بالذات ينبغي أن يبدأ اللبنانيون التفكير في المسائل الخلافية التي تمزقهم وتوزعهم الى فريقين متنابذين: المحكمة الدولية، الشراكة في القرار وفي ادارة السلطة، السياسة الدفاعية، وأشياء اخرى.
وحين لا يكون لأحد منهم مصلحة في تلك الجريمة الشنعاء، فينبغي ان لا يكون لديه اذن مصلحة في الايحاء بأن ثمة انقساماً لبنانياً حيال مسائل كانت في عداد الثوابت والبديهيات عند رفيق الحريري. حين نتذكر أن حقبة الشهيد رفيق الحريري في السياسة والسلطة أتت محمولة على عناوين سياسية ثلاثة هي الوحدة الوطنية والشراكة في الحكم واعادة الإعمار، نقول ان الوفاء لرجل هذه الحقبة لا يكون إلا باستئناف الخيارات السياسية التي كرستها تلك العناوين والمبادئ.
* كاتب عربي