ورد كاسوحة *
مرة جديدة يعيد اللبنانيون إنتاج المأساة، لم تكفهم حروب الأمس ولا خلاصاتها المؤلمة، ولم تثنهم عن تأدية دور بات على ما يبدو قدرهم الأثير: وقود الحروب.
في إصرارهم الدائب والعنيد على تأدية دور البطل التراجيدي ما يشي بخلل مزمن في الفهم، وبالتالي في القدرة على تحليل الأمور في سياقاتها الموضوعية وخلاصاتها المنطقية.
إذ ليس من الممكن ولا من المعقول فهم قدرتهم الهائلة على تجرع الآلام وتقديم القرابين البشرية عند كل مفترق سياسي خلافي، ومن ثم العود الأبدي إلى سلوك الخفّة السياسية والاستهتار الأخلاقي، وكأن شيئاً لم يكن، وكأن سيلاً من دماء اللبنانيين لا يكفي ليقول شيئاً، أو يحرّض على قول شيء، أو يدعو في أقل تقدير إلى إعادة النظر في مسلك سياسي مريض، لا يفعل شيئاً سوى تصدير الأزمات، وإعادة إنتاجها كلّ مرّة في شكل جديد ومختلف.
عندما كتب بيكيت «في انتظار غودو» لم يكن يعلم أنه يصنع لأنصار العبث واللامعقول أيقونتهم الوحيدة، لكنه بالتأكيد عاش مديداً ليرى ويسمع ويعاين مشاريع دول، بات العبث جزءاً من هويتها وكيانها، لكنه عبث آخر من النوع الذي يدمي ويترك ندوباً غائرة، قبيحة دميمة، لا تنفع معها وصفات بيكيت وغيره من محترفي العبث الجميل.
وهنا أليس من العبث أن يستطيع القاتل الإفلات من جريمته كل مرة، وبهذه السهولة وبقدر من الخفة لا يحتمل في مدينة تشهد أرقاماً قياسية ومتزايدة من الاغتيالات السياسية والقتل المجاني!! ألا يجوز التساؤل عن جدوى هذا السباق المحموم إلى السلطة، مهما كانت الوسيلة، وبأي ثمن، حتى لو كانت صراعات من طينة حلبات الموت الرومانية، تلك التي لا ترى إلى «النصر» سبيلاً إلا بالدماء وباللحم الحي، ولا بأس كذلك بقليل من الرقص فوق القبور.
لبنان الآن يرقص فوق قبور أبنائه، يمضي بلعبة العبث إلى حيث لا يدري ولا ندري، وليس من أحد يقول له، أو بالأحرى للاعبين به أن صراع المحاور لا ينتج وطناً، ولا يفضي إلى شيء، وإذا كان هناك من أمر يقود إليه، فهو ولا شك إعادة إنتاج الانقسام بصيغته الطائفية. وهنا مكمن الخطورة، إذ ما من حرب أهلية نشبت في العالم إلا وكانت مسبوقة بفتيل داخلي يتغذى على صراعات الخارج، ولأمراء لبنان وملوك طوائفه سوابق تشهد لهم، في استدعاء الخارج، أي خارج، أميركياً كان أو سورياً أو مصرياً أو إيرانياً أو سعودياً...، وتوظيف نفوذه لتحقيق غلبة ما، أو تلزيم طائفة لأخرى، ودائماً على حساب الداخل اللبناني، أفراداً ونخباً ونسيجاً اجتماعياً متضافراً.
لن تعيد مسودة المحكمة الدولية، ولاحقاً إداناتها، أحداً ممن قضى، وقطعاً لن تستطيع حكومة الوحدة الوطنية حماية من تبقى، ما دام المجرم ماضياً في غيّه ومصمماً أكثر من أي وقت
مضى على الاستمرار في لعبة طاقية الإخفاء.
أليس في ذلك ما يبعث على الدهشة، وربما على الذهول،
أنسميه المجرم الشبح، ما دامت هذه التسمية درجت أخيراً وصارت من عدة المسوّقين لفكرة النظام الأمني اللبناني السوري، وكأن هذا النظام لم يكن قائماً قبل إميل لحود وفريقه بسنوات، وهذا موضوع آخر وللحديث فيه بقية.
في طريقة القتل ما يبعث على الريبة، يضرب القاتل ضربته ويهرب، وكأنه مرتاح إلى وضعه سواء كان القتل بعبوة ناسفة صغيرة، أو بحزمة هائلة، أو بالقنص المباشر، والطرق الثلاث تفضي في التحليل الأخير إلى خلاصة واحدة ووحيدة:
لبنان في خطر حقيقي، ما دام الموت مجانياً إلى هذا الحد، وباتت معه قيمة الفرد، مهما كان هذا الفرد على هذا القدر من الرخص والابتذال. أمن الأفراد هو المهدد الآن، وهذا جديد على لبنان، بعدما رسّخت الحروب الأهلية المتناسلة في هذا البلد مفهوماً للموت، يُعرّف بصيغة الجمع، إذ كان موتاً جماعياً في ذلك الزمن الذي يبدو غابراً وغابراً جداً هذه الأيام.
موت الجماعة ــ الطائفة في زمن الحرب مقابل موت الفرد ــ الطائفي أو العلماني في زمن السلم، كم تبدو المعادلة مجحفة وغير قابلة للتصديق، فإذا كان غياب أحد أفراد الجماعة الطائفية خسارة قد تستدرك لاحقاً، فماذا يعوض غياب الفرد المواطن حتى لو كان طائفياً، وماذا إذا كان فرداً
من طينة سمير قصير، أي الفرد الحر صاحب الضمير المواطني، وصاحب الرؤيا والتفكّر.
في هذه الحال يغدو القتل فعلاً يتهدد لبنان في وجوده، ما دام يستهدف قيمته، التي هي قيمة أفراده، قيمة حياتهم، هذه الحياة التي تحولت مع سيادة قانون الاغتيال والقتل الفردي أثراً بعد عين، فما معناها أصلاً ما لم يكن هناك من يحميها أو من يقدر على حمايتها أساساً، وهذا أمر جدير بأن يضعه اللبنانيون على قائمة أولوياتهم قبل المحكمة الدولية، وقبل حكومة الوحدة الوطنية على أهميتهما معاً: من يحمي لبنان واللبنانيين في ظل هذه الفوضى السياسية الكارثية، وفي ظل ذلك الفلتان والطوفان الأمني والاستخباري المتعدد الجنسيات، من يحميهم من وصايات الآخرين وتدخلاتهم ومصالحهم ومؤامراتهم، ومن يحميهم من أنفسهم أساساً. ها هنا خلاصة أخيرة، علّها تكون مساهمة في نقاش يتعدى حوار الطرشان بين منظّري المحاور، ويثمر أكثر من خلافهم على جنس الملائكة:
إذا كان للعبث من عنوان في ما يجري على الساحة اللبنانية حالياً، فهو هذه «الساحة» تحديداً، إذ لن يتوقف القاتل عند حد، ولن ينقطع سيل الدماء، ولن يكف لبنان عن تقديم أبنائه قرابين على مذبح القضية، ما دام ماضياً في إقصائه حلم الدولة والحرية والمواطنة والمقاومة والأمن والرفاه والعدالة والديموقراطية، وفي استمرائه لعبة الساحة والخاصرة الرخوة و«الحضن الدافىء» لكل من تسوّل له نفسه تسويغ ثقافة الموت، وجعلها عرفاً سائداً، يتغذى على عقدة الخوف، وعلى توق اللبنانيين الدائب والعنيد إلى إسقاط هذا الخوف على الآخر، أياً كان هذا الآخر، وأياً كانت مسؤوليته عن الحال البائسة التي وصل إليها الاجتماع اللبناني اليوم.
* كاتب سوري