ترجمها عن الروسية حبيب فوعاني
إنني شاكر كثيراً لدعوتي إلى هذا المؤتمر الموقر، الذي يجمع السياسيين، العسكريين، رجال الأعمال والخبراء من أكثر من 40 دولة.
إن شكل المؤتمر يمنحني إمكانية تجنب التهذيب الزائد وضرورة التحدث بقوالب دبلوماسية مريحة مدوّرة لكنها خاوية. ويسمح لي بالتحدث عما أفكر فيه بالفعل في ما يتعلق بمشكلات الأمن الدولي. وإذا بدت مداخلاتي للزملاء خصامية ومفرطة في حدتها أو غير دقيقة، فإنني أرجوكم ألا تغضبوا مني، إذ إن هذا هو مؤتمر وحسب. وآمل أن لا ينتفض السيد تيلتشيك (المدير التنفيذي للمؤتمر هورست تيلتشيك) على مقعده ويشعل «الضوء الأحمر».
وهكذا، من المعلوم أن مشكلة الأمن الدولي هي أوسع بكثير من قضايا الاستقرار العسكري ــ السياسي. إنه ثبات الاقتصاد العالمي، والتغلب على الفقر، والأمن الاقتصادي، وتنمية الحوار بين الحضارات.
إن الطابع الشامل وغير القابل للتجزئة قد عُبِّر عنه في المبدأ الأساسي: «أمن كل واحد هو أمن الجميع». وكما قال فرانكلين روزفلت في الأيام الأولى لنشوب الحرب العالمية الثانية: «أينما انتهك السلام، يبدو العالم كله في خطر وتحت التهديد».
وما زالت هذه الكلمات تحتفظ بحيويتها اليوم أيضاً. ويشهد بذلك موضوع مؤتمرنا المكتوب هنا: «الأزمات العالمية هي مسؤولية عالمية».
كان العالم قبل عقدين فقط منقسماً اقتصادياً وإيديولوجياً، وضمنت أمنه مقدرات الدولتين العظميين.
وأقصت المواجهة العالمية القضايا الاقتصادية والاجتماعية الفائقة الحدة إلى هامش العلاقات الدولية وهامش جدول الأعمال اليومي. وخلّفت لنا «الحرب الباردة» مثل أي حرب أخرى «قنابل لم تنفجر»، وإنني أعبّر هنا بشكل مجازي. وأقصد القوالب الإيديولوجية، وازدواجية المعايير والنماذج الأخرى لتفكير التكتلات. فيما العالم الأحادي القطب المقترح بعد «الحرب الباردة» لم يَبْقَ هو أيضاً.
بالطبع، يعرف تاريخ الإنسانية مراحل أحادية القطب والطموح إلى الهيمنة على العالم. وما الذي لا نجده في تاريخ الإنسانية!
ولكن ما هو العالم الأحادي القطب؟ مهما جمّلوا هذا المصطلح، فهو في نهاية الأمر يعني في الواقع شيئاً واحداً: هو مركز واحد للسلطة، مركز واحد للقوة، ومركز واحد لاتخاذ القرار.
إنه عالم السيد الأوحد. وهو في نهاية الأمر مدمر ليس فقط لأولئك الذين يوجدون في إطار هذا النظام، بل للسيد نفسه، لأنه يقوضه من الداخل.
ولا شيء يجمعه بالطبع بالديموقراطية لأنها، كما هو معلوم، سلطة الأكثرية مع اعتبار مصالح الأقلية وآرائها.
وللمناسبة، يعطون روسيا دائماً دروساً في الديموقراطية، ولكن أولئك الذين يعلموننا هم أنفسهم، لأمر ما، لا يريدون التعلم كثيراً.
أظن أن نموذج أحادية القطب ليس فقط غير مقبول للعالم المعاصر بل وغير ممكن أبداً. وليس فقط لعدم كفاية الموارد العسكرية ــ السياسية والاقتصادية لدى الزعامة الانفرادية في العالم المعاصر بالذات، بل لأمر آخر أهم هو أن النموذج نفسه يُعتبر غير قابل للعمل لعدم وجود أساس أخلاقي ــ أدبي للحضارة المعاصرة ولاستحالة وجوده.
وفي الوقت نفسه، ما يجري في العالم اليوم، والآن فقط بدأنا بالنقاش في ذلك، هو نتيجة محاولات إدخال هذا المفهوم بالذات في الشؤون الدولية (مفهوم العالم الأحادي القطب).
وما هي النتيجة؟
لم تحلّ الخطوات الأحادية الجانب وغير الشرعية أبداً مشكلة واحدة. وأكثر من ذلك، لقد ولّدت مآسي إنسانية جديدة وبؤر توتر. احكموا بأنفسكم: لم تصبح الحروب والنزاعات الإقليمية والمحلية أقل. وقد ألمح السيد تيلتشيك بلطف إلى ذلك. والناس في هذه النزاعات يُقتلون أكثر من السابق، أكثر من ذلك بكثير!
نحن اليوم نلاحظ استخداماً مفرطاً وجامحاً للقوة العسكرية في الشؤون الدولية، تلك القوة التي تفضي بالعالم إلى بوتقة النزاعات الدائمة، البلد تلو الآخر. وبالنتيجة، لا تكفي القوة لحل كامل لأي واحد منها. ويصبح حلها السياسي مستحيلاً.
نحن نلاحظ أكثر فأكثر استخفافاً بمبادئ القانون الدولي الأساسية. وأكثر من ذلك، وفي حقيقة الأمر، إن كل نظام تشريعات إحدى الدول، وهي بالطبع الولايات المتحدة، قد تخطى حدودها الوطنية في كل المجالات: في الاقتصاد والسياسة والحقل الإنساني، ويُفرض على الدول الأخرى. من سيعجبه ذلك؟ كثيراً ما أصبحنا نصادف في القضايا الدولية السعي لحل هذه القضية أو تلك انطلاقاً مما يسمى الجدوى السياسية المبنية على المنفعة السياسية الآنية.
وهذا بالطبع فائق الخطورة، ويؤدي إلى ألا يشعر أحد بالأمان. أود التشديد على ذلك، لا يشعر أحد بالأمان. لأنه لم يعد باستطاعة أحد الالتجاء إلى القانون الدولي والاحتماء به كحائط صخري. وتعتبر هذه السياسة محفّزاً لسباق التسلح.
إن هيمنة عامل القوة يغذّي نزوع عدد من الدول إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل. وأكثر من ذلك، ظهرت أخطار جديدة تماماً لم تكن معروفة في السابق ولكنها تكتسب اليوم طابعاً عالمياً، مثل الإرهاب.
إنني على ثقة بأننا اقتربنا من اللحظة الحاسمة، عندما يجب أن نفكر بجدية في بناء الأمن العالمي.
ويجب هنا الكف عن البحث عن توازن معقول بين مصالح جميع أعضاء التواصل الدولي، ولا سيما الآن، عندما يتغير «المنظر الدولي» بسرعة وبشكل ملموس، بنتيجة التطور الديناميكي لسلسلة كاملة من الدول والمناطق.
لقد لفتت إلى ذلك السيدة المستشارة، إذ يبلغ مجمل الناتج الإجمالي المحلي للهند والصين في معادلة القوة الشرائية أكثر مما لدى الولايات المتحدة الأميركية. والناتج الإجمالي المحلي، على هذا الأساس، لدول البرازيل، روسيا، الهند والصين يفوق مجمل الناتج الإجمالي المحلي للاتحاد الأوروبي. وحسب تقديرات الخبراء، في المستقبل المنظور، فإن هذا الشرخ سيستمر في الازدياد.
ولا ينبغي الشك في أن المقدرة الاقتصادية للمراكز الجديدة للنمو العالمي ستُحوّل حتماً إلى نفوذ سياسي وسيتعزز تعدد الأقطاب.
وفي هذا الصدد، يتصاعد بجدية دور الدبلوماسية المتعددة الجوانب. ولا بديل في السياسة من الانفتاح، الشفافية والعقلانية، بينما يجب أن يكون استخدام القوة بالفعل إجراءً استثنائياً كاستخدام الإعدام في االتشريعات الحقوقية لبعض الدول.
نحن اليوم، على العكس من ذلك، نلاحظ كيف أن الدول التي تحظر الإعدام حتى بالنسبة إلى القتلة وغيرهم من المجرمين الخطرين، وعلى الرغم من ذلك، تشارك بسهولة في العمليات العسكرية التي يصعب تسميتها مشروعةً، فيما يقتل مئات بل وآلاف الناس الأبرياء في هذه النزاعات!
وفي الوقت نفسه يبرز سؤال: هل يجب علينا أن ننظر مكتوفي الأيدي وغير مبالين إلى مختلف النزاعات الداخلية في بعض الدول، وإلى فظائع الأنظمة الاستبدادية والطغاة وانتشار أسلحة الدمار الشامل؟ هذا هو في الواقع ما انطوى عليه السؤال الذي طرحه زميلنا المحترم السيد ليبرمان (السيناتور الديموقراطي الأميركي جوزيف ليبرمان). هل فهمت سؤالك بشكل صحيح (يتوجه إلى ليبرمان)؟ وبالطبع هذا السؤال جدي! هل نستطيع النظر مكتوفي الأيدي إلى ما يجري؟ سأحاول الإجابة عن سؤالك أيضاً. بالطبع، لا ينبغي علينا النظر مكتوفي الأيدي.
ولكن هل توجد لدينا وسائل لمواجهة هذه التهديدات؟ بالطبع توجد. ويكفي التذكير بواقعة حدثت أخيراً. لقد حدث التحول السلمي للنظام السوفياتي. وأي نظام كان! وكم كان لديه من الأسلحة، ومنها الأسلحة النووية! لماذا يجب الآن عند كل فرصة مناسبة الضرب والقصف؟ هل ينقصنا التهذيب السياسي واحترام القيم الديموقراطية والقانون في ظروف غياب خطر الإبادة المتبادلة.
إنني على اقتناع بأن ميثاق الأمم المتحدة فقط يمكن أن يكون الآلية الوحيدة لاتخاذ قرارات استخدام القوة العسكرية كآخر حل. وفي هذا الصدد، إما أنني لم أفهم ما قاله أخيراً زميلنا وزير الدفاع الإيطالي، وإما أن تعبيره لم يكن دقيقاً. وعلى أي حال، لقد سمعت منه أن استخدام القوة يمكن أن يكون مشروعاً فقط إذا ما اتخذ حلف الـ«ناتو» أو الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة القرار بذلك. إذا كان بالفعل يعتقد كذلك، فوجهات نظرنا مختلفة. لأن استخدام القوة يعتبر مشروعاً إذا اتخذ قرار بذلك استناداً إلى الأمم المتحدة وفي إطارها. ولا داعي لاستبدال منظمة الأمم المتحدة بحلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي. وعندما توحد الأمم المتحدة فعلياً قوى المجتمع الدولي التي تستطيع التفاعل مع الأحداث في دول بعينها، وعندما نتخلص من الاستهتار بالقانون الدولي، من الممكن أن تتغير الحالة. وفي الحالة المعاكسة، سنجد أنفسنا في مأزق وستتضاعف كمية الأخطاء الشنيعة المرتكبة. وفي الوقت نفسه، بالطبع يجب التوصل إلى أن يكون القانون الدولي ذا طابع شامل في فهم الأعراف وتطبيقها.
ولا يجوز تناسي أن الأداء الديموقراطي في السياسة يفترض المناقشة واتخاذ القرارات.
السيدات والسادة المحترمون!
إن الخطر المحتمل في زعزعة العلاقات الدولية مرتبط بالركود الواضح في مجال نزع التسلح.
وروسيا تقف مع استئناف الحوار في هذه القضية المهمة.
ومن المهم المحافظة على أساس ثابت لنزع التسلح الدولي ــ القانوني. وفي الوقت نفسه ضمان مواصلة مسار خفض الأسلحة النووية.
لقد اتفقنا مع الولايات المتحدة الأميركية على خفض مقدراتنا النووية المنقولة على حوامل استراتيجية إلى 1700-2200 رأس نووي بحدود 31 كانون الأول 2012. وتنوي روسيا تنفيذ التعهدات التي أخذتها على عاتقها بصرامة. ونأمل أن يتصرف شركاؤنا أيضاً بشفافية وأن لا يقوموا بادخار مئات الرؤوس النووية لحالة الضرورة و«لليوم الأسود». وإذا أعلن وزير الدفاع الجديد للولايات المتحدة اليوم أن الولايات المتحدة لن تخبّئ هذه الرؤوس الزائدة في المستودعات ولا «تحت الوسادة» أو «تحت الغطاء»، فإني أقترح النهوض والترحيب بذلك وقوفاً. سيكون ذلك تصريحا مهماً.
وستتمسك روسيا، وتنوي التمسك لاحقاً، بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية ونظام المراقبة المتعدد الجوانب على التقنيات الصاروخية. وتحمل المبادئ الموضوعة في هذه الوثائق طابعاً شمولياً.
وفي هذا الصدد، أود التذكير بأن الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وقّعا في الثمانينيات معاهدة للقضاء على فئة كاملة من الصواريخ المتوسطة والقريبة المدى ولكن المعاهدة لم تُعطَ طابعاً شمولياً.
ويملك مثل هذه الصواريخ اليوم عدد كبير من البلدان: جمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية، جمهورية كوريا، الهند، باكستان، إسرائيل. والكثير من دول العالم ينشئون هذه الأنظمة ويخططون لتجهيز القوات المسلحة بها. فيما تتعهد الولايات المتحدة الأميركية وروسيا فقط بعدم صنع هذه الأنظمة من الأسلحة.
ومن الواضح أننا في هذه الظروف مضطرون إلى التفكير في توفير أمننا الخاص.
ومع ذلك، لا ينبغي التسليم بظهور أنواع جديدة من الأسلحة العالية التقنية والمدمرة. هذا فضلاً عن إجراءات التحذير من ظهور مجالات جديدة للمواجهة وخصوصاً في الفضاء حيث لم تعد «حروب النجوم» خيالاً بل واقعاً.
إن عسكرة الفضاء، برأي روسيا، يمكن أن تجر عواقب غير متصورة على المجتمع الدولي، ليست أقل من بدء العصر النووي. ونحن وقفنا غير مرة مع المبادرات الموجهة لعدم السماح بوصول السلاح إلى الفضاء.
وأريد اليوم إعلامكم بأننا أعددنا مشروع معاهدة يتعلق بالحؤول دون نشر الأسلحة في الفضاء. وفي القريب العاجل سوف نرسله إلى شركائنا اقتراحاً رسمياً. لنعمل على ذلك معاً!
ولا يمكن إلا أن تقلقنا خطط نشر عناصر من أنظمة الدفاع ضد الصواريخ في أوروبا. ومن هو بحاجة إلى سباق التسلح الحتمي في هذه الحالة؟ أشك بعمق أن يكون الأوروبيون بحاجة إلى ذلك.
لا وجود للأسلحة الصاروخية ذات المدى البالغ نحو 4 أو 5 آلاف كلم، والتي تهدد أوروبا فعلياً، لدى أي من الدول التي لديها مشاكل. وهي لن تظهر في المستقبل المنظور أو في الآفاق المنظورة، بل ولا يتوقع ظهورها أيضاً. وإن الإطلاق الافتراضي لصواريخ كورية شمالية مثلاً نحو أراضي الولايات المتحدة عبر أوروبا الغربية، يناقض بوضوح قوانين علم القذائف. وكما يقال عندنا في روسيا فإن ذلك يشبه من «يمد يده اليمنى خلف رأسه ليلامس أذنه اليسرى».
ولا أستطيع وأنا موجود هنا في ألمانيا إلا أن أتذكر الوضع المتأزم لمعاهدة القوات المسلحة العادية في أوروبا.
فقد وُقّعت هذه المعاهدة عام 1999، وأُخذ في الاعتبار الواقع الجيوبوليتيكي الجديد، ألا وهو حلّ حلف وارسو. ومنذ ذلك الحين مرت سبع سنوات، ولم يصادق على هذه الوثيقة سوى أربع دول، إحداها الاتحاد الروسي.
وصرحت دول الـ«ناتو» بصراحة بأنها لن تصادق على المعاهدة...، ما دامت روسيا لم تسحب قواعدها من جورجيا ومولدافيا. ولكن قواتنا تُسحب من جورجيا وبشكل مسرّع. وقد حللنا هذه المشكلات مع زملائنا الجورجيين، وهذا معلوم للجميع. فيما تبقى في مولدافيا مجموعة تتألف من ألف وخمسمئة من مجنّدينا الذين يقومون بمهمات حفظ السلام ويحرسون مستودعات الذخيرة التي بقيت منذ زمن الاتحاد السوفياتي. ونحن نناقش مع السيد سولانا دوماً هذه القضية. وهو يعرف موقفنا. ونحن على استعداد للعمل لاحقاً في هذا الاتجاه.
ولكن ماذا يجري في هذا الوقت؟ في هذا الوقت يظهر في بلغاريا ورومانيا ما يسمى قواعد أميركية أمامية خفيفة، في كل منها خمسة آلاف عسكري. إذاً شمال الأطلسي يدفع قواته الأمامية نحو حدودنا الدولية بينما نحن ننفذ المعاهدة بحذافيرها ولا نقوم بردة فعل على هذه الخطوات.
وأعتقد بأنه لا علاقة بتاتاً لمسار توسيع الـ«ناتو» بتحديث هذا الحلف أو بضمان أمن أوروبا. وعلى العكس من ذلك، إنه يخفض مستوى الثقة المتبادلة. ولدينا حق مشروع بالتساؤل صراحة: ضد من هذا التوسيع؟ وماذا جرى للتأكيدات التي أعطاها شركاؤنا الأوروبيون لنا بعد حل حلف وارسو؟ أين هذه التصريحات؟ لا أحد يتذكرها حتى. غير أني أسمح لنفسي بتذكير الحاضرين بما قيل، وأريد إيراد اقتباس من خطاب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي السيد فيرنير في بروكسيل في 11 أيار 1999. لقد قال حينئذ: «إن واقعة أننا مستعدون لعدم نشر قوات الـ«ناتو» خارج أراضي جمهورية ألمانيا الاتحادية يمنح الاتحاد السوفياتي ضمانة أمن راسخة». أين هي هذه الضمانة؟
لقد وزعت منذ زمن بعيد أحجار جدار برلين هدايا تذكارية. ولكن لا يجوز نسيان أن سقوطه أصبح ممكناً بفضل الاختيار التاريخي لشعبنا أيضاً، شعب روسيا. الاختيار لمصلحة الديموقراطية والحرية والانفتاح والشراكة المخلصة مع جميع أعضاء العائلة الأوروبية الكبرى.
أما ما يجري الآن فهو محاولات لفرض خطوط تقسيم وأسوار جديدة، لتكن افتراضية، ولكنها تقسّم وتجزّئ قارتنا المشتركة. فهل نحتاج إلى سنين وعقود طويلة وتعاقب بضعة أجيال من السياسيين لتفكيك هذه الجدران الجديدة وهدمها؟
السيدات والسادة!
نحن نقف بحسم مع تعزيز نظام عدم الانتشار النووي. إن العرف القانوني ــ الدولي القائم يسمح بإنشاء تكنولوجيا صنع الوقود النووي لاستخدامه في الأغراض السلمية. والكثير من البلدان تريد ولها الحق الكامل في صنع طاقتها النووية الخاصة بها أساساً لتعزيز استقلالها في الطاقة. ولكننا نحن نعي أيضاً أن هذه التكنولوجيات يمكن تحويلها بسرعة للحصول على مواد تسليحية.
وذلك ما يثير توتراً دولياً جدياً. وأسطع مثال على ذلك هو البرنامج النووي الإيراني. وإذا لم يضع المجتمع الدولي حلاً عقلانياً لتضارب المصالح هذا، فستهز استقرار العالم أزمات مشابهة، لأن الدول المشرفة على هذه الحافة أكثر من إيران، ونحن وإياكم نعرف ذلك. وسنصطدم دوماً بخطر انتشار أسلحة الدمار الشامل.
وقد تقدمت روسيا في العام الفائت بمبادرة لإنشاء مراكز متعددة الجنسيات لتخصيب اليورانيوم. ونحن منفتحون لكي تقام هذه المراكز ليس فقط في روسيا، بل وفي البلدان الأخرى، حيث ستوجد على أساس مشروع الطاقة النووية السلمية، وتستطيع الدول الراغبة في تطوير الطاقة النووية أن تحصل بشكل مضمون على الوقود عبر مشاركتها المباشرة في أعمال هذه المراكز، وبالطبع تحت مراقبة مشددة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وتتماشى مع الاقتراح الروسي المبادرات الأخيرة لرئيس الولايات المتحدة الأميركية جورج بوش. وأعتقد أن لروسيا والولايات المتحدة وبدرجة متساوية مصلحة في تشديد أنظمة عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل ووسائل إيصاله. إن بلدينا بالذات اللذين يُعتبران رائدين في المقدرة الصاروخية والنووية، يجب أن يصبحا رائدين في وضع إجراءات جديدة أكثر صرامة. وروسيا جاهزة لهذا العمل. ونحن سنجري مشاورات مع أصدقائنا الأميركيين.
وبشكل عام، يجب أن يتطرق الحديث إلى إنشاء أنظمة أدوات سياسية وحوافز اقتصادية، تكون الدول معها ذات مصلحة في عدم إنشاء قدراتها النووية الخاصة بها ودورة الوقود النووي، فيما تتمكن من تطوير طاقتها النووية وتعزيز مقدرتها في الطاقة.
وفي هذا الخصوص أتوقف بالتفصيل عند التعاون الدولي حول الطاقة. لقد تطرقت السيدة المستشارة إلى ذلك، وتكلمت بإيجاز عليه. تسترشد روسيا في مجال الطاقة بمبادئ السوق وبشروط شفافة وموحدة للجميع، ومن الواضح أن السوق هي التي يجب أن تحدد سعر الطاقة وأن لا يصبح سعرها مادة للمزايدة السياسية والضغط الاقتصادي أو الابتزاز.
نحن منفتحون للتعاون. وتشارك الشركات الأجنبية في مشاريع الطاقة الضخمة عندنا. وتصل نسبة مشاركة الرأسمال الأجنبي إلى 26% في استخراج النفط ــ فكروا في هذا الرقم، أرجوكم، – 26 % من استخراج النفط. حاولوا أن تأتوا لي بمثال واحد لمثل هذا الوجود الواسع لـ«البزنس» الروسي في الفروع الرئيسية لاقتصاد الدول الغربية. لا أمثلة! لا وجود لمثل هذه الأمثلة.
أذكّركم أيضاً بنسبة الاستثمارات الداخلة إلى روسيا والاستثمارات الخارجة من روسيا إلى دول العالم الأخرى. النسبة هي واحد إلى خمسة عشر. ذلكم هو مثال ملموس لانفتاح اقتصاد روسيا واستقراره.
الأمن الاقتصادي هو المجال الذي ينبغي فيه على الجميع اتباع مبادئ موحدة. ونحن مستعدون للمنافسة النزيهة.
وتظهر لدى الاقتصاد الروسي أكثر فأكثر الإمكانيات الضرورية لذلك. ويقوّم الخبراء وشركاؤنا الأجانب بموضوعية هذه الديناميكية، إذ ارتفع أخيراً مؤشر روسيا الاقتصادي، وتحولت بلادنا من مجموعة الأخطار الرابعة إلى الثالثة...
وكما تعلمون، فإن مسار انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية دخل مرحلته النهائية. وأنوّه بأنه خلال المفاوضات الطويلة وغير السهلة سمعنا غير مرة كلمات عن حرية الكلمة وحرية التجارة وعن الفرص المتساوية، ولكن، لأمر ما، متعلقة حصراً بسوقنا الروسية.
وموضوع مهم آخر يؤثر بشكل مباشر في الأمن العالمي. يتحدثون كثيراً اليوم عن مكافحة الفقر. ولكن ماذا يجري في الواقع؟ من ناحية تُعتمد موارد مالية لبرامج مساعدة الدول الفقيرة، وأحياناً موارد ليست بالقليلة لـ«استيعاب» شركات الدول المانحة. لنقل ذلك وبنزاهة والكثيرون هنا يعرفون ذلك أيضاً. وفي الوقت نفسه، ومن ناحية أخرى، يُحافظ على الدعم الزراعي في الدول المتطورة، ويقيّد وصول الآخرين إلى التكنولوجيا العالية.
تعالوا لنسمّي الأشياء بمسمياتها، ويصبح الأمر هكذا: حيث توزع «المساعدات الخيرية» بيد، باليد الأخرى لا يحافظ على التأخر الاقتصادي وحسب، بل ويُجمع الربح. وتؤدي التوترات الاجتماعية الناشئة في المناطق الفقيرة حتماً إلى نمو الراديكالية والتطرف وتغذي الإرهاب والنزاعات المحلية...
ومن الواضح أن دول العالم الرائدة يجب أن تلحظ هذا التهديد، وأن تضع تالياً نظاماً أكثر ديموقراطية وعدالة للعلاقات الاقتصادية في العالم، ذلك النظام الذي يمنح فرصة وإمكانية للتطور للجميع.
وما دمت أتكلم في مؤتمر أمني، أيها السيدات والسادة، فلا ينبغي السكوت عن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي. ومن المعلوم أنها أُنشئت للنظر في كل شيء، في كل جوانب الأمن العسكرية ــ السياسية، الاقتصادية، والإنسانية...
ولكن ماذا نرى في الواقع؟ نرى أن هذا التوازن قد أُخلّ به، إذ تجري محاولات لتحويله إلى أداة فظة لتوفير المصالح السياسية الخارجية لهذه المجموعة أو تلك بالنسبة إلى الدول الأخرى. وتحت هذه المهمة «يـُفَصَّلُ» جهاز المنظمة البيروقراطي، غير المرتبط بالمرة بالدول المؤسِّسة. و«فصّلوا» تحت هذه المهمة إجراءات اتخاذ القرارات واستخدام ما يسمى «المنظمات غير الحكومية»...
وفقاً للوثائق الأساسية، فإن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي مدعوة لمساعدة الدول الأعضاء في المجال الإنساني وبطلب منهم، والمساهمة في مراعاة الأعراف الدولية في مجال حقوق الإنسان. هذه مهمة ذات أهمية ونحن نساندها. ولكن هذا لا يعني أبداً التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وإجبار هذه الدول على طرق العيش والتطور.
ومن الواضح أن هذا التدخل لا يساعد أبداً على إنضاج الدول الديموقراطية الحقيقية. وعلى العكس من ذلك، يجعلها تابعة، وكعاقبة لذلك، غير مستقرة من الناحية السياسية والاقتصادية.
ونحن نعوّل على أن تقوم المنظمة بمهماتها المباشرة وعلاقاتها مع الدول المستقلة على أساس الاحترام، الثقة والشفافية.
أشكركم على إصغائكم.