عباس ناصر *
يكاد يكون لبنان من اقل البلدان العربية التي لم تحافظ على ارث واسع من الشعارات الايديولوجية التقليدية في حراكها السياسي، علماً بأنه كان رائداً وما يزال في تجسيد مفردات كاملة الأدلجة، مثل مقاومة المشروع الصهيوني، او ممانعة المخطط الامبريالي..
قد يكون السبب في ذلك، التعدد الثقافي والحضاري للبنان. وقد يكون قصر عمر الحركات القومية في هذا البلد المتعدد، او اقتصارها على صفوة لم توفق في تسييل خطابها لدى العامة، لتكون بحق عابرة للطوائف. وربما يكمن السبب أيضاً في قدرة هذا البلد على تجاوز المفردات الى الواقع مباشرة، وهو ما يجعل شعاراته اعجز من ان تكثف معاني سبقها الواقع اليها. ولعل تقسيم الحياة السياسية اليومية الذي كان سائداً حتى قبيل انسحاب الجيش السوري من لبنان، قد حد من هذه الادلجة، او نظمها على الاقل، فلبنان حتى ذلك التاريخ او ربما بعده بقليل، كان اشبه بمجموعة وكالات يحتكر فيها حزب الله عمل المقاومة، وغيره السياسة الاقتصادية، وآخرون السياسة المحلية، فيما تفوض دمشق «بالإجماع» لتكون الوكيل العام لمختلف مناحي الحياة، مقابل أن تحفظ الامن والاستقرار «على طريقتها». وهو ما يعني انه لم يكن هناك من ايديولوجيا جامعة، بل وعي سياسي، او ربما قهر سياسي، نظم الخلاف والاختلاف في الايديولوجيات والسياسات قبل أن ينفجر مع استشهاد رفيق الحريري.
اليوم يبدو الحراك السياسي على ارضية مختلفة. لا نقاش اليوم في أن القسمة سياسية بالظاهر، لكنها تختزن صراعاً على مشاريع ليست الايديولوجيا بعيدة عنها، بل هي في صلبها.
غير أن كره اللبنانيين للايديولوجيا رغم انغماسهم الطائفي بها حتى أم رأسهم، جعل التنكر لها احد من الاسلحة المستخدمة في وجه الفريق الاكثر تصالحاً مع ايديولوجيته، اي حزب الله.
لذا كان من السهل والمربح في آن، أن يركز فريق الرابع عشر من آذار على حزب الله ضمن الحملة الشاملة على المعارضة، وأن يوسم الآخرون بأنهم ملحقون بحزب اسلامي سبق أن وصفه البعض بأنه حزب ايراني ناطق باللغة العربية، ذلك أن في هذا الاستهداف، استفزازاً «لعقلانية» الرأي العام عموماً، والمسيحي خصوصاً (لا سيما انصار الجنرال ميشال عون)، لجهة تذكيرهم بأنهم ينجرّون ــ سواء عن وعي أو من دون وعي ــ الى مشروع ايديولوجي رسمه وما يزال، حزب ينظر الى الدنيا من منظار اسلامي، فيقزمها ويجعلها مجرد ممر، لمستقر اسمى وأرقى هو «الحياة الآخرة».
ليس إشكال فريق الرابع عشر من آذار مع حزب الله، أنه يسرق حصتهم في جنة الخلد، ولا في تعففه عن مساكنة النساء، ولا في جهله بمراسم الخمرة وطقوسها، بل في المشروع السياسي ــ الثقافي الذي يأخذ البلاد كما يقولون الى حيث لا يعود هناك حياة.
لذا كان «حب الحياة» شعاراً يرسم برأي فريق الرابع عشر من آذار الحد الفاصل للعامة من أنصارهم، مع معايشة حزب الله والمعارضة. وما تبسيط الدعوة الى العيش والسهر والانتظام في الدروس والمواظبة في العمل، الا صورة مبسطة لجوهر نافله: رفض المنطق الايديولوجي الذي ينطلق منه حزب الله، والذي يقوم اساساً على فكرة الجهاد والشهادة، رفعاً للضيم وانتصاراً للحق.
وجه الادلجة في هذه الحملة أنها قد تستبطن تعاملاً ارشادياً وربما اقصائياً مع الشريك في الوطن، تعاملاً يظهر هذا الشريك كأنه «آخَر مغاير»، لا يختلف في السياسة وحسب، بل في الرؤية الحضارية. لذا هو يحتاج لوصاية ثقافية ــ اجتماعية تنشّط معرفته بالحياة، وتحسّن وعيه بها، خصوصاً انه ــ من وجهة نظر اصحاب الحملة ــ لا يدرك جماليتها، وإن أدركها لا يبتغيها، والاخطر أنه يقصرها على من يريد من اللبنانيين.
وتجدر الاشارة هنا إلى أن اصحاب هذه الحملة، لم يضعوا شعارهم في وجه حزب الله او المعارضة بالمعنى المباشر للكلمة، لكن لا احد في لبنان، لا سيما المعارضة وحزب الله، لم يتعامل مع هذه الحملة الا باعتبارها كذلك. فردّت المعارضة كأنها مدانة، وجزمت بأنها تحب الحياة أيضاً. لكنها رسمت طريقها الخاص الى تلك الحياة، فجعلتها مشروطة تسير بين حدين.
الحد الأول: أخلاقي قيَمي، فالحياة كما تقول المعارضة يجب أن تحفظ «الكرامة» و«الشرف» وأن تبقي «الرأس مرفوعاً»، وهي مفردات تشير بقوة الى ايديولوجيا اهلها، فالحياة لدى حزب الله، تهذبها مقولة «هيهات منا الذلة».
والحد الثاني سياسي اقتصادي سوسيولوجي، فالحياة بالنسبة للمعارضة يجب أن تكون بلا «ديون» ولا «وصاية اجنبية»، وتقوم على الشراكة التي تضمن الحياة لكل اطياف السياسة المحلية، لا سيما أن اللبنانيين لم يتقاسموا السياسة والساحات فقط، بل تقاسموا الالوان أيضاً، في اشارة رمزية الى أن الاختلاف يستبطن اكثر من وجه.
لقد مثّل هذا الرد ــ الهجوم، الممهور بخاتم المعارضة وتوقيعها، ذروة الاقرار بأن حزب الله هو المعني بالحملة الأم، وقد يكون ورّط، دون أن يقصد، الجنرال عون بأنه يسير وفقاً لايدجيولوجيته، علماً بأن القيَم التي تحملها تلك الايديولوجيا ليست مذمومة لذاتها، فهي ولا ريب تحمل معاني انسانية خالدة ولا سيما رفض الخضوع والهوان. لكنها بلعبة السياسة اليومية صارت ادبيات جهة، واستخدامها يعني بالضرورة، استتباعاً لايديولجيا محددة، يصر فريق الرابع عشر من آذار على أنها ضد الحياة.
بكل الاحوال لقد عبّرت هذه الظاهرة الطريفة والخفيفة في الزمن الصعب، عن واقع تشارك فيه الطرفان المعارض والموالي من غير قصد. فقد غاب الإجماع عن الموضوعات السياسية، لكن أنسنة الأزمة وحّدت الطرفين خلف حب الحياة، وأظهرتهما كأنهما يشكوان السياسة، ويحاولان الهروب من الواقع الى «الكلاشيه».
قد تعبّر هذه الظاهرة التي تجمل عملية الاشتباك السياسي، عن حالة وسطية تنشدها الاغلبية الصامتة، هذا إذا سلّمنا بأن في لبنان اغلبية صامتة. فصرخة الاستياء من السياسة، والكفر بأهلها، هما في الاساس حال البعيدين عنها، لكن الأمر في لبنان لم يظهر كذلك، فحتى من يتنفسون السياسة يعبّرون عن امتعاضهم منها، وهو ما حاولت ربما أن تكشفه جماعة «11 آذار» التي قدمت نفسها بديلاً، حالةً وسطية تقسم الفارق بين الطرفين فتبدو كأنها تمثل صوت الاعتدال في زمن تطرف القوى السياسية.
طبعا ليس في هذا التبسيط للأزمة من عيب ما دام الهدف نبيلاً، لكن لا احد في لبنان يتعامل مع «11 آذار» كأنها حالة «وسطية». لكن بكل الاحوال، إن كانت كذلك فهي لا ترقى لأن تمثّل ظاهرة، حتى بحسبة الارقام هي ليست كذلك (مع الاستئذان من السوسيولوجيين الذين لا يعتبرون العمومية من سمات الظاهرة الاجتماعية بل انعكاساً لها). فالوسطية في لبنان دعوة من غير مريدين، هي اشبه بصرخة في واد.
لقد ثبت في لبنان أن تيار الوسط وهم يشبه الحقيقة، او في احسن الاحوال، حقيقة تشبه الوهم.
* اعلامي لبناني