أرنست خوري *
أن تقرّر فئة أو حزب أو مجموعة أو أي قوة سياسية، توسّل كل الأدوات الفكرية والعلمية والدينية والفلسفية والإيديولوجية، بغية «صرفها» في حساب مشروعها السياسي الذي تسعى الى فرضه وتغليبه، هو تماماً ما تمارسه قوى الأكثرية اللبنانية، منذ أن تكفّلت بمهمات الوكيل المحلّي للبضاعة الأميركية الأحدث المطلوب فرضها على السوق العربية ككلّ، التي هي تمهيد الأرضية الصالحة لولادة شرق أوسط جديد (أو كبير). هو جديد على كل المستويات: جغرافياً، ديمغرافياً، سياسياً وثقافيّاً. وتمهيد الأرضية الصالحة لمثل هذا المشروع الضخم، يفرض العمل على ترويج مفاهيم جديدة، وبالضرورة إلغاء مفاهيم أخرى تنتمي الى إرث وحقبات حركات التحرّر الوطنية التي عرفها عالمنا العربي حتّى ستينيات القرن الماضي. ومن أبرز تلك المفاهيم التي باتوا يسمونها «خشبية»: مقاومة كل احتلال أجنبي، والتزام القضية الأم لمعظم النزاعات الشرق أوسطية، عنينا قضية فلسطين المحتلّة.
فبعدما قبلت أطراف الأكثرية بأن تعتبر نفسها الجناح اللبناني لـ«محور المعتدلين العرب»، أدركت أنّ نزع سلاح المقاومة بالقوة أو بقرار دولي أممي، هو من رابع المستحيلات، وفهمت أنّ قراراً يأتي بقوة متعدّدة الجنسيات تحت الفصل السابع من شرعة الأمم المتحدة يكون دورها ضرب حزب الله عسكرياً، هو خارج حسابات الإدارة الأميركية وحلفائها حتّى إشعار آخر. بناءً على ما تقدّم، بقي أمام قوى السلطة استراتيجيتان للعمل على بلورتهما: إثارة الوعي الأعزّ على وجدان شعوبنا العربية، وهو الوعي الطائفي المذهبي (بعداوات وفتن متنقّلة قد تصل الى حروب أهلية قذرة)، وهي الاستراتيجية الأكثر تكلفةً على جميع الأطراف. أمّا الثانية فهي التكتيك الأكثر دهاءً، لكنها تتطلّب نفَساً أطول، وتقوم على شنّ حملة «غسيل دماغ» جماعية تعيد تركيب المفاهيم أفقياًَ وعمودياً في عقول العباد، وفي الإعلام (الذي تحوّل الى بروباغاندا رخيصة)، وفي ميادين الثقافة والفنون، وفي الجامعات والمدارس... كل ذلك بغية قول التالي: إنّ من لا يزال يؤمن بجدوى المقاومة في تحرير الأرض، ينطلق من مفاهيم اضمحلّت بفعل مرور الزمن، وهو يعاني عقماً في التفكير يجعله عاجزاً عن مواكبة العصر وتغيّراته، بدليل عدم اعترافه بالوسائل السلمية والديبلوماسية التي تحملها المواثيق الدولية والتي من شأنها تحرير الأرض واستعادة الحقوق من دون إراقة نقطة دم واحدة... كلّها عبارات ومصطلحات تخفي وراءها منظومات فكرية تسطيحية وتسخيفية لقضايا شائكة، يختصرها العنوان المركزي الذي اعتمدته ولا تزال قوى 14 آذار: «نحن جماعة الحياة، وهم ــ أي المعارضة ــ جماعة الموت، نحن نحب الحياة بالفطرة، وهم يكرهونها بحكم التكوين أيضاً». وبلورةً لهذا العنوان، نقرأ ونشاهد ونسمع في الإعلام والطرق، لافتات وإعلانات وبرامج كلّها تتركز على بناء «سور صيني» يفصل اللبنانيين الى معسكرين: أحدهما يريد السلام والرخاء والاستقرار و«السترة»، وثانيهما مفطور على الحرب والنزاعات والمقاومة والسلاح والممانعة...
أمام الحملة المركّزة تلك، يمكن إعطاء الوسام الأرفع في التأخّر عن الرد النوعي، لقوى المعارضة اللبنانية، وخاصة تلك التي تعتبر نفسها «أمّ الصبي» بما يخص المقاومة، أي حزب الله الذي لم يبادر الى تفنيد الأكاذيب والتزوير الثقافي الذي يكتنف هذه الحملة، على الرغم من امتلاكه وسائل الرد المناسبة من إعلام ومراكز دراسات وأقلام صحافية وأكاديميين وإمكانات مادية... لقد اختار الحزب السير مع الموجة الى حيث يريد الخصم السياسي، اختار الرد على السجال السياسي من دون تكبّد عناء فضح ما تُظهره القراءة بين السطور، وفضّل القيام بحملة إعلامية مضادّة تحمل العنوان نفسه مذيّلاً بشعار مضاف إليه (بدّي عيش... بحرية إلخ)، بينما كان المطلوب إطلاق حملة توعية لأبعاد الشعارات المرفوعة من المعسكر المقابل وما تحمله من خلفيات، حملة مدعومة بدراسات وأبحاث فلسفية وسياسية وتاريخية وأنتروبولوجية... وليس كما فعل العديد ممّن يدور في فلك الحزب، من التشدّد الديني ومزاوجة شعارات سياسية مرحلية مع شعائر ومناسبات دينية (عاشوراء مثلاً) لا تتشابه ظروفها مع الوقائع المعاصرة.
تأتي في هذا السياق مقالة الأستاذ محمّد شقير في صحيفة الأخبار (عددها 145) بعنوان متطابق تماماً مع المضمون، لتصبّ في رأينا في خانة تأكيد ما ليس بحاجة إلى التوكيد، لكون كاتبنا ينقل بأمانة مفاهيم دينية هي أصلاً غير قابلة للنقاش بالنسبة إلى المؤمنين بها، مفادها أنّ «هذه الحياة (الدنيوية) ليست هدفاً بذاتها، وإنّما هي وسيلة لحياة أسمى وأعلى» (حياة النفس)، بالتالي فإنّ الموت في سبيل الله ــ حسب النظرة الإسلامية للحياة والموت ــ إنّما هو الحياة الحقيقية.
لقد أراد السيد شقير حصر دائرة قرّائه بالمسلمين، لا بل بالمسلم الشيعي تحديداً، واستشهد في سبيل هذا الغرض، بميراث كربلائي حسيني، بينما نرى بأنّ الملحّ اليوم هو التوجّه الى «الآخر» الذي لا يوافقه القناعات. كل ما نحاول قوله، هو أنّ الطارىء اليوم، هو إزالة التشويه المفتَعل في حق المؤمنين بضرورة المقاومة (في كل مكان وزمان حيث احتلال واستغلال، وليس حصراً في لبنان) كقيمة دينية للبعض، وكقيمة إنسانية بحتة بالنسبة إلى شريحة واسعة ممّن كان لهم شرف التضحية بحياتهم ومستقبلهم وأرزاقهم، لا لكي يتنعّموا بالحياة الآخرة، بل لكي يوفّروا حياةً أفضل لأولادهم ومواطنيهم من بعدهم، في وطن خاليين من الاستعمار والاحتلال. حياة أفضل هنا على الأرض، لأنها قيمة عظيمة تستحقّ كل تضحية. من هنا تكون ممارسة المقاومة، فعل قناعة راسخة وتشبّث بالحياة، التي على كل محبّ لها، أن يسعى لأن تكون شروطها كريمة من أجل الأجيال المقبلة، إن لم يستطع التنعّم بها شخصيّاً.
لم يتردّد هتلر في تجنيد العلماء والأطبّاء ليصدروا دراسات تُظهر أنّ جينات أفراد العرق الآري وخلاياه هي أسمى و«أكثر جودة» من تلك المكوّنة للأعراق الأخرى. لم يوفّر منظّرو نظام التفرقة العنصرية (الأبارتهايد) في إفريقيا الجنوبية وسيلةً لتزوير العلم وتحويله بناءً إيديولوجياً ليبرهنوا أنّ أصحاب البشرة السوداء هم بتكوينهم البيولوجي والنفسي متوحّشون ومتخلّفون. أخيراً، ليس بناء نظريات ثقافوية ترويجية لمزاعم طائفية وعنصرية ذات غلاف علمي عصري بمستَغرب في سلوكيات البعض في لبنان من دعاة «حب الحياة» وفي دوائر القرار العالمي... أمّا إذا كنتم تودّون معرفة السبب، فابحثوا في دفاترهم الخاصّة، وستجدون أرشيفاً غنياً بالقتل على الهوية وتمويل الحروب الأهلية.
* كاتب لبناني