بولس خلف *
على رغم نفي المسؤولين الأميركيين المتكرر ان الولايات المتحدة لا تنوي مهاجمة ايران، تؤكد المعطيات الميدانية والتحاليل الصحافية والتقارير الاستخبارية عكس ذلك. في الأيام القليلة المقبلة، ستصل الى مياه الخليج حاملة الطائرات جون ستنيس ومجموعتها القتالية لتنضم الى حاملة طائرات أخرى موجودة في المنطقة منذ فترة طويلة. وأرسلت مزيداً من القطع البحرية المتخصصة في إزالة الألغام ونشرت مجموعات إضافية من بطاريات الباتريوت المضادة للصواريخ في عدة دول في الشرق الأوسط. ويؤكد أيوب ماكأسكيل في مقال نشره في صحيفة «الغارديان» في 10 شباط الماضي أن «البناء العسكري الحالي في الخليج سوف يتيح للولايات المتحدة شن هجوم على إيران بحلول الربيع المقبل». ويضيف الكاتب ان باحثين من المحافظين الجدد يعملون في معهد AMERICAN ENTERPRISE ونائب الرئيس ديك تشيني يحثون الرئيس جورج بوش على فتح جبهة جديدة مع ايران. وللتذكير، فإن أحد أبرز العاملين في هذا المركز، فريديريك كاغان، كان الملهم الأساسي لاستراتيجية بوش الجديدة في العراق.
فينسينت كانيستريرو، وهو محلل في مجال الاستخبارات عمل سابقاً في الـCIA ومع مجلس الأمن القومي، يؤكد ان تحضير الخطط العسكرية ضد ايران يجري على قدم وساق. ويكشف أن لائحة الأهداف لحملة جوية أصبحت جاهزة وتوضع الآن اللمسات الأخيرة على البناء العسكري الضروري لتنفيذ هذه الخطط.
المؤرخ الشهير فرنسيس فوكوياما يعتبر، في مقال نشرته جريدة الغارديان في 31 كانون الثاني 2007، ان المحافظين الجدد «لم يتعلموا شيئاً بعد خمس سنوات كارثية في العراق».
يضيف صاحب نظرية «نهاية التاريخ» ان الولايات المتحدة لا تملك القدرة على احتلال بلد جديد أكبر من العراق بثلاثة أضعاف وان أي هجوم على ايران سوف يكون من خلال حملة جوية واسعة. لكن فوكوياما يعتبر ان أي ضربات جوية ستؤدي الى تقوية النظام الايراني، فيما السبيل الوحيد للخلاص من مشروع أسلحة الدمار الشامل هو إسقاط هذا النظام. «يشكك المؤرخ في نوعية المعلومات الاستخبارية التي تملكها الولايات المتحدة عن تفاصيل القدرات الايرانية وعن المشروع النووي، معلناً ان ضرب ايران قد يطلق أعمالاً إرهابية على نطاق عالمي. حسب فرنسيس فوكوياما، لم تمنع كل هذه المعطيات السلبية المحافظين الجدد من دفع إدارة جورج بوش نحو خيار الحرب ضد ايران. زبيغينيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي السابق، يعتقد ان هناك «تحضراً لقضية لأجل القيام بضربة عسكرية على ايران». وأضاف أمام إحدى لجان الكونغرس ان الضربة ستوصف بالدفاعية «تماماً كما كانت الحال في الهجمات الأولى على فيتنام الشمالية».
الكلام كثير في الصحافة ومراكز الأبحاث الغربية، على نية واشنطن توجيه ضربة عسكرية ضد ايران. ويترافق هذا الكلام مع تقديم الرئيس بوش للكونغرس الأميركي موازنة ضخمة للدفاع تبلغ 716,5 مليار دولار لتمويل الحربين في العراق وأفغانستان وتسديد نفقات زيادة حجم الجيش.
وتظهر الأرقام التي تقدمت بها الإدارة الأميركية زيادة بنسبة 11,3 في المئة في موازنة الدفاع وتشمل زيادة عديد الجيش بحوالى مئة ألف جندي بحلول عام 2010. سترتفع موازنة الجيش الى 130 مليار دولار، أي بزيادة 20,4 مليار دولار بحيث لا يتجاوزها في الحجم سوى القوات الجوية. وسترتفع موازنة المارينز الى 20,5 مليار دولار صرف أكثر من عشرين مليار دولار لشراء طائرات مقاتلة ومقاتلات إلكترونية وطائرات من دون طيار وحاملات طائرات ومدمرات وسفن قتالية. وسيصل إجمالي نفقات المشتريات في العام المقبل الى 108 مليارات دولار، يخصص منها 14,4 ملياراً لبناء السفن و27 ملياراً للطائرات.
كل هذه المعطيات تدل على تنامي النزعة العسكرية بشكل مطّرد لدى الادارة الاميركية. هذا الميل نحو استخدام القوة لحسم الخلافات السياسية والديبلوماسية مع الدول الأخرى هو مؤشر في غير مصلحة الولايات المتحدة. إنها ظاهرة غير صحية تؤكد تراجع أميركا كنموذج حضاري يتمتع بقدرة جذب عالية تتطلع إليه معظم شعوب العالم. شيئاً فشيئاً، يتلاشى «الحلم الاميركي» ليحل مكانه كابوس يتمثل بعملاق عسكري لم ير التاريخ مثيلاً له، يريد فرض هيمنته على الآخرين من دون تقديم لهم قيمة حضارية مضافة. تماماً كما فعل المغول في القرون الوسطى، حيث أسسوا بالحديد والنار أوسع امبراطورية عرفتها البشرية من دون ان يقدموا أي إنجاز حضاري أو ثقافي للشعوب التي حكموها. بل على العكس من ذلك، فقد أحرقوا المكتبات ودور العلم ودمروا المدن وقتلوا الناس. عندما تضطر قوة عظمى الى استخدام آلتها العسكرية الضخمة لفرض نفوذها يعني ذلك ان وهجها الحضاري بدأ يخفت وأنها لم تعد تستطيع ان تبسط سيطرتها من خلال إشعاعها العلمي والثقافي والفني. فمعظم الامبراطوريات في التاريخ لم تسيطر عبر جيوشها الجرارة فحسب، بل أيضاً من خلال النموذج الحضاري الذي قدمته للشعوب التي تفاعلت معها. الغطرسة العسكرية آفة تولّد المشاكل وتخلق الأعداء. وهذا ما تختبره أميركا اليوم. فها هي روسيا بدأت تضيق ذرعاً من الولايات المتحدة التي أشعلت الأزمات المتنقلة على حدودها مهددة استقرارها وأمنها القومي. وها هي الصين انتفضت على التدخل الاميركي المتمادي في شؤون دول آسيوية قريبة منها. التمدد الاميركي بلغ ذروته في الخمس عشرة سنة الماضية. اليوم، دخلنا مرحلة انحساره.
* كاتب لبناني