أمين محمد حطيط *
منذ أن أعلن بوش استراتيجيته الجديدة، وبدء التحضيرات الأولية لانطلاق تنفيذها في العراق، انصبّ اهتمام المراقبين على دراسة الأمر وتحليله توقعاً للنتائج. وقد كان من اللافت أن قلة من الخبراء والمحللين الاستراتيجيين رأوا فرصاً لنجاح هذه الاستراتيجية في الحال الذي صدرت فيها وفي الإمكانات التي خصصت لتنفيذها، وكأن العناد الأميركي أو العنجهية الأميركية المستفيدة من تبعية أطراف محليين في الشرق الأوسط دفعت المخطط للسير قدماً في التنفيذ. لذلك لم يتوقف بوش في إطلاق خطته عند المعارضة الداخلية، ولم يتوقف عند نسبة الخسائر التي سيتكبدها في الميدان، بل رأى أن بإمكانه أن يطلق الرصاصة الأولى إيذاناً بالبدء، ثم يدخل الجماعات في اقتتال داخلي يريحه، لينصرف هو إلى ترتيب أوضاعه، ومن ثم تعويض خسائر «اقتحامه الفاشل حتى الآن لمسرح الشرق الأوسط»... الآن، بعد أسابيع على اعتماد الاستراتيجية، وفي أسبوع انطلاقها الميداني الفعلي، لنا أن نسجل التطورات الهامة التي من شأنها أن تؤثر على هذا التنفيذ:
ــ نبدأ بالمتغير الأول أو التطور العراقي: ففي الوقت الذي كانت تتحضر فيه القوى الأميركية وتنظم ذاتها وتتوزع المهمات مع القوى العراقية، وهي كما نعتقد ستكون في الرئيسي منها قوى برية (مشاة ومدرعة خفيفة وثقيلة)، وتعتمد في إسنادها الأساسي على المروحيات في وجهيها القانص (الذي يستخدم ضد أهداف أرضية) والناقل (أي نقل القوات إلى الميدان الذي تحتاج إليه المعركة لتتفادى ضياع الوقت وخطر الطريق)، وبالتالي إن معارك ضد مقاومة لم يكتمل تسليحها وتطورها تكون أسهل في منظومة من القوى المركبة كما ذكرنا... لكن الخطر الذي فاجأ الجميع الآن (بالنسبة إلى الخطة ومنفذيها) هو نجاح المقاومة في إسقاط طائرات الهليكوبتر... إن فعل الإسقاط هذا، بالدقة التي حصل فيها، ليس من شأنه أن يلحق الخسائر الآنية بالجيش الأميركي فحسب، (وهي مهمة للغاية على أي حال) بل يتعدى تأثيره ذلك ليصل إلى الخطة ذاتها... إن فعل المقاومة هذا وجه رسالة واضحة للمخطط الأميركي تقول: «إن حركة الطوافات أصبحت مقيدة بالنيران، وانتهت مرحلة حرية حركتها والمبالغة في الاعتماد عليها»، ما يعني أن هناك إرباكاً أصلياً وتأثيراً جذرياً على الخطة يلزم بإعادة النظر بأهدافها، أو بالنسبة المتوقعة من الخسائر الممكن احتمالها... وفي الحالين هناك تعثر وصعوبات، وحسناً فعل قائد القوات الأميركية في العراق الذي حذر من فشل الخطة، وأطلق جرس الإنذار للأقربين منه والأبعدين عنه في الجغرافيا، والتابعين في القرار... يقول حذار الفشل. وأنا أضيف إليه الآتي: «...لقد كانت مفاجأة الطوافات كبيرة. إنها صفعة مؤلمة للخطة قبل انطلاقها».
ــ المتغير الثاني: جاء من إيران، لقد استبقت أميركا الخطة بقرار العقوبات (1737) ثم بتضمين الخطة ما يوحي بالاستعداد لعمل عسكري محتمل ما ضد إيران، ولكن من غير احتساب أو تحسب جاءت المناورات الإيرانية، وما ظهر فيها من سلاح جديد، ومن رسائل واضحة إلى أميركا تختصر بالآتي: إذا كان النفط هو ما جاء بك (يا أميركا) إلى المنطقة، وحماية إسرائيل كانت الهدف الآخر، فإن الأهداف هذه لن تسلم، والنفط لن يستمر تدفقه في حال الاعتداء علينا، إذ إن ناراً تشعل في إيران لن تبقى محصورة فيها، بل ستمتد إلى حيث الأهداف وستتغير الأوضاع». إنها رسالة زلزالية للخطة الأميركية، من شأنها أن تسبب في الحد الأدنى إعادة النظر في ما يُخَطَّط لإيران من حرب أو حتى تحرش، وهذا ما سيؤثر على الخطة التي اعتمدت كما ألمحنا من عزل وتهديد، وصولاً إلى التحييد لتكون المعالجة لاحقاً بما تتيحه نتائج خطة بغداد، ويكون في الرد الإيراني الصفعة الثانية التي لا تغفل فعاليتها، صفعة تشكل العقبة الأخرى التي لا تسهل نجاح الخطة.
ــ أما المتغير الظرفي الثالث، فقد جاء هذه المرة فلسطينياً، من خلال اتفاق مكة الذي ثبت حركة حماس في رئاسة الحكومة، وفرض على من قاطعها من العرب العودة عن ذلك، ولو كان الأمر حتى الآن لفظياً. إن اتفاق مكة، رغم عدم اطمئناننا إلى مستقبله من حيث التنفيذ، ما يجعله بنظرنا لا يتجاوز فرصة التقاط أنفاس داخلية تتيح للأطراف التمتع بهدنة من غير قتال، ولكن تبقى هذه الهدنة بذاتها معاكسة للاستراتيجية الأميركية القائمة في شقها الفلسطيني على محاصرة حماس و إكراهها على الاعتراف بإسرائيل وباتفاقات لم تنفذها إسرائيل يوماً، إن من شأن هذه الهدنة أن تضيّع على أميركا فرصة أسابيع من الاقتتال الفلسطيني الداخلي، لتتوجه البندقية الفلسطينية مجدداً باتجاه واحد هو الاتجاه التحريري، معطلة الاتجاه الانتحاري الذي يُفرح العدو ويريحه.
ــ أما الأمر الأخير، فنراه في لبنان، وهو إن كان لا يرتقي إلى مستوى ما ذكر في المتغيرين الأولين، فإن فيه ما يزعج المخطط من خلال تعذر إضرام النار في الجسم اللبناني حتى الآن، لتحرقه حرب أهلية تحتاج إليها أميركا في تنفيذ الخطة، وخاصة أن هذا الجسم، إلى هذه اللحظة، بدا ذا مناعة معقولة لا تتيح لفيروس الفتنة أن يفتك به، و لكن لا يعني هذا القول أن لبنان قائم في دائرة الأمان، كما نتمنى أن يكون، إذ إن الواقع الذي نراه يظهر قابلية مناطق محدودة هنا أو هناك لتكون أهدافاً ممكنة، لأنها مناطق أضعف في المناعة. لكن تبقى هذه المناطق محصورة متباعدة لا يشكل انتهاكها أكثر من اضطرابات يمكن السيطرة عليها بعد وقت لا يطول.
في ضوء ما تقدم، نرى أن خطة بوش الجديدة التي اتخذت من العراق مرتكزاً للبدء، تلقت الصفعات قبل الانطلاق في التنفيذ، وجاءت هذه الصفعات مع تفاوت تأثيرها وفعاليتها على الأمر، لتزيد من صعوبة التنفيذ، وتقلل من فرص النجاح. وإذا عطفنا الأمر على ما يدور في الداخل الأميركي من تصاعد رافض لها، نجد كم هو صعب الآن وضع المخطط. وإذا كنا نقول سابقاً بصعوبة النجاح الأميركي وفقاً للاستراتيجية الجديدة، فإننا نقول اليوم إن فشل الاستراتيجية بات أمراً منطقياً وفقاً لتحليل المعطيات المتوافرة.
إنه الفشل الذي أضحت درجة احتماله أعلى من أي يوم مضى، وسيكون على بوش إن كان يرغب قبل أن تدخل أميركا في سنة سباقها الرئاسي إلى البيت الأبيض في الخريف المقبل، أن يعود إلى تقرير لجنة بيكر ــ هاملتون، لقراءة مجددة والتوقف عند اقتراح مفصلي فيها هو اعتماد استراتيجية التفاوض المعترفة بحقوق أهل المنطقة، وعلى الأقل أقويائها، والإقلاع عن استراتيجية القوة الفارضة للحلول الاستسلامية على أصحاب الأرض والثروة، من دون أن ينسى أن الشرق الأوسط خصوصاً والعالم عموماً بدآ ينتظران أفول عصر «الأحادية القطبية» التي كانت وهماً لم يحدث استقراراً لأي مكان في المعمورة، أحادية نعاها الرئيس الروسي بوتين منذ أيام، نعياً لفظياً من على منبر أوروبي، ونعياً عملياً في زيارات بالغة الأهمية لدول في الشرق الأوسط يعلم الجميع موقعها.
* عميد ركن ــ باحث استراتيجي