ايلي نجم *
يبدو أنّ العدل بالنسبة إلى السلام هو كالمحبّة بالنسبة إلى الحبّ. فالمحبّة تصون الحبّ بالتضحية. والعدل يرسي السلام ويوصله إلى جوهره حين يوفّر للناس الأمان. والأمان هو الشعور بالسلامة. وقديماً، قالت العرب إنّ الحاكم يكون عادلاً حين لا يخافه البريء. إذاً، ما من حرب عادلة، أي محقّة. لكن ماذا عن حقّ الدفاع عن النفس؟
نلاحظ بدايةً أنّ سقراط رضخ للقرار الجائر الذي أصابه. ومثله فعل السيّد المسيح. أمّا المهاتما غاندي، فقد اعتمد اللاعنف وسيلةً لتحرير بلاده من الاحتلال الإنكليزيّ. إلاّ أنّ الحرب لازمت البشر في تاريخهم حتّى غدت ظاهرةً طبيعيّة بالنسبة إلى البعض، أو أمراً محموداً بالنسبة إلى البعض الآخر، أو حقّاً كرّسه القانون الوضعيّ في ما دُعيَ الحقّ بخوض الحرب (jus ad bellum، وهو الحقّ الذي ورد الكلام عليه في اتفاقيّتَي لاهاي: 1899 و1907، واتفاقيّة جنيف: 1949، وبروتوكول جنيف: 1977). وكانت «الأيام» عند الجاهليّين بمثابة المعارك والحروب التي خاضتها العرب ضدّ الخصوم والأعداء. والحرب كانت أيضاً، ولمّا تزل، بحسب الجنرال والمنظّر العسكريّ البروسيّ كارل فون كلاوزفيتس، وجهاً آخر من الأوجه العديدة لسياسات الدول. فهل تكون الحرب أمراً عارضاً أم حتميّاً؟
يقول الفيلسوف الألمانيّ هيغل، إنّ الحرب قادرة على زعزعة المجتمعات وإيقاظ أفرادها من الخمول السياسيّ والخبل الثقافيّ. أمّا الكاتب والفيلسوف الفرنسيّ إرنست رينان، فكان يرى في الحرب أحد شروط التقدّم، لأنّها بمثابة السوط (أو الصوت؟) الذي يحول دون رقاد الأمم وركودها وموتها. في هذا السياق، يبدو للبعض أنّ حملة نابوليون بونابرت على مصر (1798) كانت وراء استفاقة شعوبنا العربيّة والإسلاميّة من السبات الذي استغرقت فيه إبّان عصر الانحطاط، كما كانت وراء انطلاقة عصر النهضة، وأنّ الحربين العالميّتين في القرن العشرين كانتا وراء تطوّر الفيزياء النوويّة. إلاّ أنّه ينبغي ألاّ يؤوَّل هذا الواقع التاريخيّ القائم بأنّ الحرب هي ضرورة حتميّة. ذلك لأنّ مجرّد خطر الحرب أو التلويح بها، من دون خوضها في ما عُرِف بـ«الحرب الباردة»، قد يكفي أحياناً لردع الشعوب والأمم عن خوض غمارها، وتنشيط هذه الشعوب وحثّها على التقدّم والارتقاء، بحيث تستحيل الخلافات والصراعات والنزاعات بين الدول والأمم تسابقاً، بل تزاحماً على الوقوف على القوانين العلميّة التي تحكم الطبيعة، وتنافساً على تطويعها لخدمة أغراض الحياة وغاياتها.
وفي صدد الحقّ في خوض الحرب، ثمّة شبه اتّفاق على الشروط الستّة التي ينبغي توافرها لكي تكون الحرب غير ظالمة أو على قَدْرٍ أقلّ من الظلم:
1ــ أن تكون السلطة التي تعلن الحرب سلطةً شرعيّة بحيث يكون القرار بخوض الحرب صادراً عن الشعب. 2ــ وأن تكون القضيّة التي تُخاض من أجلها الحرب قضيّةً محقّة. 3ــ وأن تكون نيّة الذين يخوضون الحرب نيّةً سليمة. 4ــ وأن تُستخدم وسائل تتناسب وغايات الحرب. 5ــ وألاّ يكون الأمل بالانتصار وهماً. 6ــ وأن تكون الحرب الملاذ الأخير.
أمّا الطريقة التي ينبغي أن تُدار بها الحرب، وهي ما يُعرَف بالحقّ إبّان الحرب jus in bello، فالمبادئ هي الآتية:
1ــ أن تتناسب هذه الطريقة وغايات الحرب، ويناظر هذا المبدأ الشرط الرابع المذكور سابقًا. 2ــ وأن يميّز المتحاربون بينهم وبين السكّان المدنيّين، بحيث يحظّر عليهم مهاجمة هؤلاء مباشرة. 3ــ وأن يحاول المتحاربون تحقيق غاياتهم باستخدام أقلّ قوّة ممكنة.
إنّ التساؤلات والاعتراضات على هذه المبادئ وتلك الشروط، هي بالطبع عديدة ومتنوّعة ومختلفة، ومنها: مَن بوسعه، أوّلاً، أن يحكم بأنّ القضيّة التي تُخاض من أجلها الحرب هي قضيّة محقّة؟ ومَن بوسعه، ثانياً، أن يحكم على النيات؟ وأن يراقب الوسائل المستخدمة في العمليّات العسكريّة، ثالثاً؟ ومَن بوسعه، رابعاً، أن يؤكّد أنّ كلّ الحلول السياسيّة والدبلوماسيّة قد اختبرت من دون جدوى واستنفدت، بحيث بدت الحرب الملاذ الأخير؟
وتبقى، على سبيل المثال لا الحصر، الحرب الديموغرافيّة (كالحرب الكوريّة بالنسبة إلى الصين الشيوعيّة ما بين 1950 و1953)، والحرب الاستعماريّة أو الإمبرياليّة (كان كارل ماركس يرى أنّ الحرب حاجة اقتصاديّة بالنسبة إلى النظام الرأسماليّ الذي يتوسّلها لتصريف إنتاجه ومجانبة الأزمات الاقتصاديّة الكارثيّة)، والحرب الاقتصاديّة (وتتمثّل بالحصار الاقتصاديّ على الشعب من دون التمييز بين المحاربين وغير المحاربين، بغية الضغط على الحكّام السياسيّين والقادة العسكريّين، كالحصار على ألمانيا إبّان الحرب العالميّة الأولى، والحصار الأميركيّ على كوبا منذ أكثر من ربع قرن، والحصار الدوليّ على العراق، والحصار الإسرائيليّ على لبنان)، وحرب العصابات التي تخوضها وحدات عسكريّة متنقّلة تعمل في وسط المدنيّين وباسمهم ومن أجلهم (ماو زيدونغ وتشي غيفارا وريجيس دوبريه)، والحرب التي تخوضها بأجسادها الشعوب المستضعَفة في العالم من طريق العمليّات الاستشهاديّة، والحرب الإرهابيّة التي تخوضها الدولة بما هي دولة (كدولة إسرائيل مثلاً) بحجّة حماية سكّانها المدنيّين من «الترهيب» المزعوم الذي تمارسه عليها الجماعات التي آثرت مقاومة الاحتلال على الخنوع، والحرب الوقائيّة (من يحكم على الطابع الوقائيّ للحرب التي تغدو، في نظر البعض، دفاعاً مشروعاً عن النفس؟) والحرب المقدّسة. في صدد هذه الأخيرة، يقول الفيلسوف الألمانيّ فيخته، إنّ الحرب تكون مقدّسة حين يغدو الاستقلال، وهو شرط الثقافة، مهدّداً، فيغدو الــــــــــدفاع عن الأرض والوطن والأمّة واجباً أخلاقيّاً.
وفي كلّ الأحوال، ينبغي أن يكون قرار الحرب اليوم، أيّ قرار بخوض أيّة حرب، قراراً دوليّاً يحظى بتأييد غالبيّة الدول الممثّلة في الأمم المتّحدة، وإلاّ كان مغامرةً قاتلة وجريمةً نكراء بحقّ الإنسان.
* كاتب واستاذ جامعي