نجيب نور الدين *
السجال الذي دار مطولاً على طاولة الحوار وخارجها حول سلاح المقاومة والاستراتيجية الدفاعية الوطنية قبل عدوان تموز وأثناءه وبعده هو في الحقيقة جدل في انتماءات والتزامات ليست سياسية فحسب وإنما تاريخية وثقافية وأيديولوجية وحتى مناطقية بالتبع والملازمة.. وبكلمة هو سجال في هوية لبنان وانتمائه وخياراته الاستراتيجية.
فالتياران الأساسيان المتنازعان تاريخياً على الساحة اللبنانية هما تيارا العروبة من جهة والكيانية من جهة أخرى.. ومع تطاول الزمن السياسي أخذ النزاع أشكالاً أخرى، لبنانية تارة وقومية تارة أخرى. ومع دخول الصحوة الإسلامية وتنامي تياراتها وتبوّؤ بعضها السلطة في دول عربية وإسلامية، أخذ يبدو في أشكال تقابل الثنائية إسلامي ــ أقلوي، لكل منهما مرجعيته المختلفة. وإذا كان التقابل بين الأفرقاء قد عرف إبان العصر الذهبي للعروبة من خلال الثنائية المزدوجة، الوطني ــ القومي / واللبناني ــ الكياني، فلإن الصراع يومها كان على سلاح المقاومة الفلسطينية، وهو اليوم على رغم تبدل الزمن والأسماء لم يغادر منطقته، إذ بقي بعد مرور ثلاثة عقود من الزمن يتركز على سلاح المقاومة.
لا شك في أننا ما زلنا أمام الإشكالية عينها، فمنذ البداية كان «الكيانيون» حريصون على عدم إدخال لبنان في المشاريع النضالية الكبرى لأنه، حسب منطق هؤلاء، لبنان بلد صغير بمساحته وإمكاناته، وهو بالتالي غير قادر على دخول «مغامرات» كبرى قد تطيح جغرافيته ومكانته وخصوصياته. إذاً السجال المستمر في سلاح المقاومة أو الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية في مواجهة العدو الصهيوني، ليس سوى رأس جبل الجليد الظاهر. فتحت هذا الظاهر تعتمل نار تلظّي مادتها المشتعلة أو القابلة للاشتعال والانفجار وهي أيديولوجيتان أو ثقافتان مختلفتان جذرياً.. بل منظومتا تفكير أصحابها على طرفي نقيض.
وتموضع هاتين المنظومتين يتصل اتصالاً عميقاً بالنظر والرؤية إلى لبنان وانتمائه وطبيعة دوره وموقعه على الخريطة العربية وضمن دائرة الصراع العربي الإسرائيلي وفي سياق العلاقات الدولية..
فهناك طرف لا يرى في لبنان دولة قادرة على مواجهة إسرائيل، إذ هو وطن في أحسن أحواله لا يصلح لأن يكون من مكونات دول المواجهة. وطرف آخر يرى لبنان جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي والإسلامي، ومعنياً بشكل مباشر بالمواجهة مع العدو الصهيوني ويرى أن لبنان إحدى دول الطوق التي يمكن أن تؤدي دوراً مهماً في الصراع بكل أبعاده السياسية والإعلامية والعسكرية..
هذا الاختلاف في وجهات النظر بل في الخلفية الفكرية والإيديولوجيا من حيث النظر إلى لبنان، تمظهر منذ ما عرف بالاستقلال بأشكال متعددة.. فخلال الفترة التي كانت تمتلك فيها صاحبة أيديولوجيا «الحياد الإيجابي» امتياز السلطة في لبنان حُيِّد لبنان بشكل شبه تام عن المواجهة مع العدو الصهيوني فلم يسجل للبنان سوى مواجهات رمزية لا تكاد تذكر خلال الأعوام 1948 و1967 و1973..
واستمر الأمر كذلك إلى حين بدأت قوات الثورة الفلسطينية النازحة من الأردن العمل الفدائي انطلاقاً من لبنان، ومنذ ذلك التاريخ اعتبر أصحاب «الأيديولوجيا الكيانية» أنه طرأ على لبنان ما أخلّ بالمعادلة القائمة منذ الاستقلال، وهذا الخلل سوف تظهر صوره سواء على مستوى الداخل حيث جعل من الطرف اللبناني الآخر طرفاً منافساً من حيث القوة، أو على مستوى دور لبنان الحيادي إذ سيجعل لبنان في قلب المعادلة التي نأى عن الاقتراب منها منذ عام 1948، وهذا ما سيدفع لبنان إلى تحمّل ضريبة كبيرة عدا عن أنه سيحيله من أرض الامتيازات إلى أرض العذابات.
هذا النوع من الاحتلال المباشر لم يدم على حاله إذ استولد من رحم الطرف الحامل لإيديولوجيا العداء الجذري لإسرائيل مقاومة جديدة لقيت منذ انطلاقتها تعاطف كل القوى والطوائف التي شكلت في وقت من الأوقات الحاضنة الوطنية المباشرة للمقاومة الفلسطينية، إنما مع امتياز نوعي هو أن هذه المقاومة الجديدة ــ مع الدعم الإقليمي لها ــ هي بنت هذه الأرض، وأولادها أبناء هذا الوطن، وهدفها تحرير أرض الآباء والأجداد التي زرعوها وأكلوا زرعها خبزاً وبنوا عليها مجداً خرّبه الصهاينة باجتياحهم الفاجر..
في هذه الأثناء أُنجز من خلال رعاية دولية عربية اتفاق الطائف وأُعيد على أساسه تركيب توازن معين للبنان يصحح خللاً داخلياً سابقاً من جهة، ويعيد توكيد دور لبنان المقاوم والممانع أمام الأطماع الصهيونية من جهة أخرى، وبالتالي يمنح المقاومة «بدعم إقليمي» المشروعية المطلوبة للاستمرار في القيام بدورها إلى حين التحرير الكامل.
المشكلة بدأت بعد تحرير معظم الأراضي اللبنانية عام 2000م حيث كان من المتوقع إسرائيلياً وأميركياً أن يقدم لبنان بشكل طوعي على إنهاء مقاومته والعودة بالحدود إلى اتفاقية الهدنة، وبالتالي تجريد المقاومة من سلاحها ونشر الجيش اللبناني على الحدود مع فلسطين المحتلة، وهذا ما لم يحصل حتى في حدوده الدنيا.
مرة جديدة عاد لبنان لينقسم على محوريه المحكومين لخلفيتين أيديولوجيتين وثقافتين مختلفتين، واحدة تريد العودة بلبنان إلى حياديته الأولى ومن تمثلات هذا الفريق «قرنة شهوان» مدعومة من البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، وأخرى تريد تثبيت دور لبنان المقاوم وتأكيد ذلك من خلال تعزيز دور المقاومة الرادع انطلاقاً من لبنان.
الرئيس الراحل رفيق الحريري كان يقف على نقطة التقاطع بين الطرفين، فهو بعدما بدأ يميل إلى التغيير الداخلي في لبنان أوحى بدعمه طروحات المعارضة آنذاك، لكن بشروط عروبية، وطمأن المقاومة إلى أبعد مدى، وهذا ما كشفه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بعيد اغتيال الرئيس الحريري.. وبالتأكيد وقف الراحل حائلاً دون انكشاف الجبهتين في مقابل بعضهما البعض، وأدى دوراً داعماً للمقاومة من جهة، وكابحاً لاندفاعة قرنة شهوان الكيانية من جهة أخرى، فبقي على مسافة واحدة من هذه القوى ضمانة وطنية وقومية وإسلامية للجميع..
اغتيال الحريري كان بمثابة نسف السد الذي كان يمنع انكشاف خطوط المواجهة آنذاك بين قرنة شهوان وداعميها الدوليين من جهة، والمقاومة وداعميها من جهة أخرى، ولئن جاء الاغتيال بهذا الشكل وفي ظل مثل تلك الظروف، فإن تيار الرئيس الحريري جنح ومعه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي نحو الطرف الأول وجرت إعادة موضعة للأطراف المختلفة بحيث أصبح هو أصل الجبهة المقابلة التي تمثّلت فيها قوى المعارضة يومها من خلال لقاءات البريستول..
بالتأكيد الموقف المستجد لتيار الحريري الذي سبقه إليه الحزب التقدمي الاشتراكي هو موقف محمول على عاطفة وغضب في آن، وسواء صح ما تستند إليه هذه القوى بتحالفها الجديد مع القوى الكيانية أو لا، فإن هذا التحالف كانت له دوافعه وأسبابه الأبعد من جريمة اغتيال الحريري.. لذلك سرعان ما وُجد لهذا التحالف رواده ومنظّروه..
فالسياسة الجديدة لتيار الحريري بقيادة الشيخ سعد الدين وفريقه حادت عن الجادة التي أرادها الحريري استراتيجيا لهذا التيار الذي كان في عهد المؤسس يمسك العصا من الوسط، لكونه كان يريد لبنان على نقطة تقاطع تياراته المتنوعة، وليس منحازاً بموازينه لمصلحة فئة دون أخرى، أي أراد الرئيس الحريري أن يكون بمثابة قطب الرحى على محاور التناقضات اللبنانية المعقدة ليبقى قادراً على التحكم بالمسار المستقبلي لهذا الوطن، وهنا يفترق التيار مع وجود المؤسس عنه بعد رحيله. ولعله من هنا يجب ان يبدأ البحث عن الغايات التي من أجلها اغتيل الرئيس الحريري..
ما جرى في لبنان بعد اغتيال الرئيس الحريري لم يكشف فقط عن الانحياز الدولي لمصلحة التيار الكياني المقدر له أميركياً ان يكون جزءاً لا يتجزأ من الاستراتيجيا الأميركية في المنطقة، بل كشف أيضاً مدى الالتزام الإقليمي العربي بالمشروع الأميركي للمنطقة المدرج تحت عنوان «الشرق الأوسط الكبير»، وبالتالي مدى الانقسام الحاد بين محورين إقليميين كبيرين عبّرا عن وجودهما بشكل لا لبس فيه إبّان العدوان الصهيوني الغاشم على لبنان في تموز الماضي.
أخطر ما في هذه الانزياحات الأيديولوجية والسياسية في لبنان والمنطقة هو ما بدأ يروّج له بشيء من العلانية المريبة، من قوى محلية متناغمة مع توجّهات عدد من الأنظمة العربية المنضوية إلى الجناح الأميركي، وهو تحوّل العداء العربي من اسرائيل الى إيران تحت مسميات مضللة كـ«الهلال الشيعي»، مثلاً، الذي تحدث عنه الملك الأردني، أو «ولاء الشيعة العرب لإيران على حساب أوطانهم»، كما جاء على لسان الرئيس المصري. وهكذا يكون العرب قد انتقلوا من استراتيجيا تحرير الأرض من العدو الحقيقي المتربص بإيران والعرب معاً الى عدو وهمي تولّد عن وعي زائف للمشكلة المركزية للعرب صنعه المحافظون الجدد لقادة معظم الدول العربية، أو قل استُدرج العرب الى القرص الأميركي وهم مضطرون بفعل الضعف والوهن غير المسبوق إلى تبنّي الروزنامة الأميركية. وهذا ما يفترض وعياً مضاعفاً لخلفية المشروع الأميركي في المنطقة واستهدافاته، لأنه إذا ما قدّر لهذا المشروع ان ينجح فهو لن يبقي للعرب والمسلمين أي موقع من مواقع القوة.
* أستاذ جامعي