توفيق شومان *
تتجاوز أبعاد «اتفاق مكة» بين الفصائل الفلسطينية المتنازعة، إشكالية التوصل الى حكومة وحدة وطنية فلسطينية، لتأخذ خاصية وثيقة الصلة بمحورية الدور السعوري الإقليمي القائم على أضلاع عدة تتحول معه الرياض الى ما يمكن اعتباره عاصمة القرار العربي في هذه المرحلة.
وبناء عليه، تجدر الاشارة أولاً، الى ان مرحلة ما بعد الاستقلالات العربية، إثر الحرب الكونية الثانية، توزعت آليات صناعة القرار العربي بين عواصم أربع هي:
أ ــ القاهرة.
ب ــ الرياض.
ج ــ دمشق.
د ــ بغداد.
غير أن انحسار الدور المصري منذ زيارة الرئيس أنور السادات للقدس المحتلة عام 1977، وما أعقبه من تدرج سلبي في عملية الانسحاب المصري الى الداخل، أفضىا الى ضعف متراكم في تأثير القاهرة في صياغة المواقف الإقليمية، وهو الأمر الذي تنبأ به الراحل الكبير رئيس تحرير صحيفة «الأهرام» الأسبق أحمد بهاء الدين، حين قال «إن هناك خشية من ان يتحول الشعب المصري الى مجرد شعب ينطق باللغة العربية»، بمعنى ان تنأى مصر عن الاهتمام بما يجري خارج حدودها الكيانية فتفقد ريادتها، ولعل المثال الأكثر سفوراً في ذلك، إخفاق القاهرة في عملية المصالحة الفلسطينية ــ الفلسطينية، على الرغم من أسبقية رعايتها لمؤتمرات الحوار بين القوى السياسية الفلسطينية وتجاورها الجغرافي مع قطاع غزة. وأما دمشق، فحالة التطويق المفروضة عليها، تحول دون فعاليتها الإقليمية، وكذلك هي حالة بغداد التي تعيش تداعيات الشقاق والاحتلال و«خراب البصرى».
وعلى ما تقدم، تتحول المملكة العربية السعودية الى مركز القرار الأكثر تأثيراً في العالم العربي، استناداً الى التالي:
1 ــ السعي الى الإمساك بالملف الفلسطيني، وهذا يتضح من خلال رعاية الاتفاق بين الفصائل الفلسطينية الأكثر نفوذاً. وبطبيعة الحال، ما كان في قدرة الرياض الاقتراب من المسعى المذكور لولا توافر عاملين بالغي الأهمية، أولهما يتمثل في إخفاق الدور المصري على المستوى الفلسطيني، والثاني يكمن في الضوء الأخضر الدولي، وتحديداً الأميركي، حيال ما يمكن وصفه بـ«سعودة الحوار الفلسطيني ــ الفلسطيني».
2 ــ الحضور الكثيف للدور السعودي في لبنان، ومرتكزات ذلك تظهر في اتساع التأثير السعودي في قرار قوى الرابع عشر من آذار عامة، و«تيار المستقبل» خاصة، فضلاً عن تبوؤ الرياض مركز المُحاوِر العربي الأبرز على المستوى اللبناني الداخلي، فضلاً عن الجانب الحواري مع طهران، ومضافاً إلى ذلك «الحرص» السعودي على استمرار ضابطة «وثيقة الطائف» ناظماً للعلاقات بين المؤسسات الدستورية والمذاهب والطوائف اللبنانية.
3 ــ الشروع في تأدية دور محوري في الملف العراقي، وتجليات هذا الأمر كانت قد بدأت مع دعوة الرئيس الأميركي جورج بوش قبل شهر ونصف المملكة العربية السعودية والأردن والإمارات العربية المتحدة، للاشتراك في حلحلة التعقيدات العراقية. وأعقبت ذلك المقالة الشهيرة لنواف عبيد في صحيفة «واشنطن بوست»، حيث قال إن الرياض لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء الوقائع الميدانية العراقية، بل قد تعمد الى مساعدة العرب السنّة بالمال والسلاح، واذا كانت مقالة عبيد (مدير التقويم الأمني السعودي السابق) قد أُدرجت في سياق وجهة النظر الشخصية، إلا أنها اعتبرت قرعاً لجرس إنذار من جانب جناح قوي داخل المملكة ذهب بعيداً في التحذير من هواجس ومقولة «الهلال الشيعي».
إن مجموعة المعطيات السابقة الذكر، تنم عن محورية الدور السعودي في أكثر الملفات العربية سخونة (فلسطين، لبنان، العراق). ومثل هذه المحورية لا تنطبق على دولة عربية أخرى، بما فيها مصر أكبر الأقطار العربية.
على ان الملاحظ في هذه المحورية، أنها تصطدم أو تتنافر مع الحضورين السوري والايراني في الملفات الثلاثة.
ففي فلسطين، على سبيل المثال، حيث تشكّل حركة «حماس» العمود الفقري للمقاومة، كانت ترتبط حتى لحظة «اتفاق مكة»، بعلاقات سياسية مع دمشق وطهران، بما يتعدى بأشواط العلاقة مع الرياض. ولذلك دأبت اسرائيل في السنوات القليلة الماضية، على اتهام سوريا وايران بالوقوف وراء إدارة العمليات العسكرية لـ«حماس»، بما يعكس بحسب وجهة النظر الاسرائيلية، فاعلية الدورين السوري والايراني في الداخل الفلسطيني. وجاء «اتفاق مكة» محاولة سعودية لتكثيف الارتباط السياسي بـ«حماس»، وفي حال نجاح الاتفاق فإن الفصائل الفلسطينية الأكثر شعبية («فتح» و«حماس») تغدو على مسافة متقاربة من السعودية، وهذا يحدث للمرة الأولى منذ انطلاق الثورة الفلسطينية عام 1965، إذ كانت «فتح» على علاقة مقبولة دوماً بالمملكة فيما الفصائل الأخرى كانت لها اتجاهاتها المختلفة والمتناقضة (سوريا، العراق، ليبيا).
وأما في لبنان فالحضور السعودي يناقض نظيريه السوري والإيراني على قاعدة إعادة تشكيل الوظيفة السياسية والإقليمية للكيان اللبناني عبر دفعه الى الانسحاب نحو داخله (لبنان)، وبما يعني فك ارتباطه الإقليمي اعتماداً على القرارين الدوليين 1559 و1701.
وفي الشأن العراقي، ينهض التصور السعودي على الإفادة الإيرانية من مرحلة ما بعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين، وكذلك على الإفادة السورية من التداخل العشائري مع العراق الذي يفضي بالعراقيين السنّة الى التقارب الاضطراري مع دمشق، فضلاً عن رفض الأخيرة لمجمل نتائج مرحلة ما بعد 9 نيسان 2003، تاريخ انهيار النظام البعثي في العراق.
وإذا كان «اتفاق مكة» من شأنه ان يؤكد بلوغ المحورية السعودية مرحلة متقدمة من فاعلية التأثير الإقليمي على المستوى العملاني، فإن البعد الإيراني في هذه المحورية يبدو أصلاً شبه وحيد في اكتمال عناصرها، وتالياً استهداف هذا البعد، ويتجلى ذلك من خلال التالي:
إن ذهاب الملك عبد الله بن عبد العزيز الى القول لصحيفة «السياسة» الكويتية قبل أسبوعين، بأن القضية الفلسطينية هي قضية عربية وليس من حق غير العرب التدخل فيها، لا يخرج (قول الملك عبد الله) عن جادة التلميح والتصريح تجاه الدعم الايراني للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، واستطراداً دعوة طهران لـ«التخلي» عن هذين الملفين.
والى هذين الملفين، ينضم الملف النووي الايراني حيث أقرت قمة مجلس التعاون الخليجي الأخيرة الذهاب نحو بناء برنامج نووي خاص، وتبدو أبعاد هذا البرنامج متعلقة بتطورات ما يجري مع إيران في هذا الخصوص، إذ إن رئيس الاستخبارات السعودية مقرن بن عبد العزيز كان واضحاً في تعليقه على ما ورد في البيان الختامي للقمة الخليجية حول البرنامج النووي، فقال إن مثل هذا المشروع «قد يأخذ جانباً سرياً وعسكرياً مثلما يفعل غيرنا في الجوار».
وفوق كل هذا وذاك، تتبوّأ مقولة «تشييع السنّة»، صدارة المحورية السعودية، وهذا ما يعيد الى الأذهان، مفهوم «الضد النوعي» الذي أطلقه المفكرون الأميركيون في الستينيات من القرن الماضي بعد حدوث الشرخ بين الشيوعيتين السوفياتية والصينية، وتكمن مخاطر إسقاط هذا المفهوم على بنية العلاقات السعودية ــ الايرانية، في تفجير البناء المذهبي الاسلامي جراء استبداد الظنون المتأتية من مقولتي «تشييع السنّة» أو «الهلال الشيعي».
ومهما يكن من أمر، فإن «الحقبة السعودية» مثلما يسميها محمد حسنين هيكل، باتت محوراً ومحورية، إلا أنها لا تغطي مساحة العالم العربي كاملة على ما كانت عليه «الحقبة الناصرية» (مع فوارق الرؤى والتصورات)، بل هي محصورة في المشرق العربي، حيث سخونة الملفات تعبّر عن حالة مخاض سياسية، يصعب معها توقع شكل المرحلة المقبلة ونوعيتها وكيفيتها، وهو ما ينطبق أيضاً على مستقبل المحورية السعودية ومصيرها....
* كاتب لبناني