حسين علي شحرور *
لا يقتصر تخمين الضرر الجسدي على تقدير العجز الوظيفي فقط، بل يشكل وصفاً دقيقاً للذيول (المضاعفات) وانعكاساتها على الحياة الشخصية والمهنية.
فالخبرة الطبية الشرعية التي يقدمها اختصاصيّ كفوء تطبيقاً لتقنية وطريقة خاصة باختصاصه، في إطار علمي قانوني يحدده الاجتهاد، تخضع لمتغيّرات تحددها طبيعة الحادث ونوعية الإصابة، ووقوعها زمن السلم والرخاء أو زمن الحرب والتوتر.
ينتج عن كل حادث مقدار من الأذى (النقص)، حيث يتدخل الطبيب ويجري مطالعة للوظائف ليخلص إلى درجة العجز، ويحدد مدة هذا العجز، وتعدّ هذه المدة بأنها فترة فقدان الاستقلالية أو الحدّ منها. وبعد مضيّ فترة زمنية يتشكل العجز الدائم (العطل)، الذي ينعكس على الحالة الاقتصادية، والاجتماعية للفرد المصاب بعد تعرض الفرد لحادث ما يصاب بعجز مؤقت، وتعتبر هذه مساوية لفترة انقطاع الفرد عن العمل، حسب الإصابة، فيخمّن الخبير المعاناة الجسدية، النفسية، والمعنوية للشخص المصاب.
أما مرحلة العجز الدائم، التي تعرف قانونياً بالإعاقة، فمن النادر أن نستطيع تقديرها في مرحلة العجز المؤقت، وعليه فإن هذه الحالة يجب أن تخضع لإعادة النظر. وعلى الخبير أن يأخذ الوقت الكافي قبل تخمين العطل الدائم، ولا بد هنا من أن نأخذ بالاعتبار سن المصاب، جنسه، مهنته ووضعه الاجتماعي، فعلى سبيل المثال، إذا فقد مهندس كومبيوتر، أو موسيقيّ أحد أصابعه، فالعجز أوالضرر اللاحق بهذا الفرد حتماً سيفوق حالة الكاتب الجالس خلف مكتبه، الذي فقد إحدى ساقيه، على خلاف الشاب الذي امتهن كرة القدم مصدراً لعيشه ورزقه.
في حالات الحروب، تعتبر أعطالاً دائمة كل حالات فقدان الأعضاء، أما ما عداها من إصابات لباقي أنحاء الجسم فلا بد أن تخضع لعامل الوقت حتى تتبلور بشكل نهائي وثابت، وخاصة أن أنواعاً من الأسلحة المختلفة قد استعملت، ومن ضمنها ما يحتوي على مواد كيماوية، قد لا تستمر عوارض التعرض له مدة زمنية طويلة. ولكن على العكس منه بمرور الوقت، فقد يصاب بعض الأفراد بعوارض تنفسية أو جلدية، أو هضمية، وفوق ذلك فقد يتولّد عنها مستقبلاً سرطانات مختلفة بالجسم، فهل من طب شرعي أو غير شرعي بإمكانه تحديد نسبة الأعطال الدائمة في هكذا حالات؟
وفوق ذلك، غالباً ما يتعرض الأفراد لإصابات نفسية لا يمكن أن تظهر خلال لقاء واحد أو معاينة طبية سريرية على يد طبيب شرعي. وأبرز الحالات النفسية ما يعرف بتنادر الهلع والرعب ما بعد المرض، وغالباً ما يشاهد عند النساء والأطفال في حالات الحروب والأزمات العنيفة، ويتظاهر على شكل رعب وخوف دائم، غياب رد الفعل العاطفي، القلق وعدم انتظام النوم. وعند الأطفال يتبدى على شكل خوف من الكبار وتجنب مخالطتهم. وهذه العوارض قد تظهر مباشرة بعد الصدمة، أو قد تتأخر بالظهور.
بماذا تقدر حالة السيدة التي تصاب بالانهيار عند سماع صوت الطيران المحلّق في الأجواء أو أصوات دويّ الانفجارات، وإن كانت بعيدة!
عندما تصدر في إسرائيل بلاغات عن عدد الإصابات الواقعة بعد عمل عسكري معيّن، يلاحظ دائماً أن بين الإصابات من أصيب بحالات هلع ومرض نفسي، ومنهم من يدخل إلى المستشفى للعلاج!
وهكذا، فإن العديد من إصابات الحروب لا يمكن تحديد مدى العجز فيها بشكل دقيق. واستناداً إلى جداول محددة خاصة، جداول أعطال العمل المتوافرة في لبنان، والتي تعود في أصلها الى سنة 1943 وقد أعيد تبنّيها بالمرسوم الاشتراعي الرقم 136ــ أيلول 1983. وهذه الجداول هي بالأصل تتعلق بالعمال الذين يعملون في مهن معينة، ويخغضون لعقود عمل بينهم وبين أرباب العمل. والجداول هذه لا تلحظ العديد من المبادئ الأساسية والضرورية لتحديد نسبة الأعطال، مثل:
- جنس الضحية.
- إصابات الأطفال.
- إصابات الكهول.
- إصابات المزارعين.
- إصابات طلاب الجامعات والمدارس.
- حالات الإجهاض والنزف الرحمي.
حالات الإصابات بالأجهزة التناسلية.
- الإصابات النفسية المختلفة.
ولتاريخه، لم أجد في جدول أعطال العمل ما يعوّض على السيدة الشابة الحامل، التي أصيبت بنزف رحمي وأجهضت جنيناً تجاوز الستة أشهر. مَنْ من المواطنين ينسى صورة الفتى علي شعيتو، مثلاً، ابن التسع سنوات، الجالس أرضاً ينتحب والدته التي كادت تموت بين يديه، وهي في حالة غيبوبة كاملة، نتيجة إصابات شديدة، (وهو يناشدها صارخاً: يا أمي لا تموتي... لا تموتي) ما هو وضعه النفسي، ومن يقدر على تحديد نسبة مئوية لحالته النفسية؟
تتعدد الأمثلة عن حالات ظهور السكري، وارتفاع الضغط الدموي وغيرها من الحالات التي لم يأت المرسوم الاشتراعي الرقم 136 ــ أيلول 1983 على ذكرها، بل ترك الأعطال غير المدرجة في جداوله إلى رأي وقرار مجلس العمل التحكيمي.
يتضح مما تقدم أن توصيف الإصابات في حالة ضحايا الحروب في الوقت عند حدوثها هو الطريق الأشمل، والأكثر تعبيراً لإظهار شدة هذه الإصابات مع وضعها تحت النظر لما قد يستجد من تطورات سالبة أو موجبة قد تلحق بها.
* طبيب شرعي