نظام مارديني *
السؤال الكبير الذي يشغل بال الأتراك مع بداية عام الانتخابات هو هل سيرشح رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان نفسه لمنصب الرئيس عندما يحين الموعد في أيار.
المجتمع العلماني في تركيا الذي يضم كبار قادة الجيش وقضاة وأكاديميين وصفوة رجال الأعمال، يخشى من أن يكون أردوغان قد عقد النية بالفعل على تولي المنصب على رغم إعلانه انه سيحدد موقفه في نيسان.
وأردوغان صاحب شعبية كبيرة وتوجهات إسلامية، وسبق أن سجن لفترة قصيرة لقراءته قصيدة وصفت بأنها هدامة الى حدّ بعيد. وينتاب العلمانيين قلق من ان يُقوّض الفصل الصارم بين الدين والدولة في تركيا إذا انتخب رئيساً. وينفي أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية» الذي ينتمي ليمين الوسط وجود أي أجندة إسلامية، ولكنهما يريدان تخفيف بعض القيود الصارمة على الممارسات الدينية ومن بينها ارتداء النساء الحجاب. وبحسب ليام هال المراقب للشؤون التركية وهو يعمل حالياً في جامعة صابانجي في إسطنبول، فإنه «سيتصاعد التوتر في الأشهر المقبلة بكل تأكيد ولكن في التحليل النهائي الدستور واضح جداً. ينتخب البرلمان الرئيس ويحظى حزب العدالة والتنمية بأغلبية كبيرة في البرلمان حالياً». وأضاف «أردوغان سياسي ذكي. يمكن ان تحتجّ المعارضة ولكن اذا قرر انه يريد ان يكون رئيساً فكيف يمكنها منعه... لا يمكنهم ان يدبروا انقلاباً يمكن ان يثير مشاكل مخيفة لتركيا».
وسبق ان أطاح الجيش أربع حكومات ديموقراطية خلال السنوات الخمسين الماضية كان آخرها عام 1997 في انقلاب لم تستخدم فيه الدبابات أو المدافع ولكن مدفوعاً بمعارضة شعبية قوية لرئيس الوزراء ذي التوجهات الإسلامية نجم الدين أربكان.
لكن في الأوضاع الحالية من الصعب تصور مثل هذه الخطوة العنيفة، فمنذ عام 2002 قاد حزب العدالة والتنمية البلاد نحو نمو اقتصادي قوي وزيادة في الاستثمار الأجنبي وبدء محادثات الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي، ومن المتوقع ان يفوز بولاية أخرى لمدة خمس سنوات في الانتخابات البرلمانية التي تجري في تشرين الثاني.
يتوقع محللون ان تكثّف أحزاب المعارضة هجماتها على التوجهات الاسلامية لأردوغان وتوجيه دعاوى في شأن الفساد وغيرها من الممارسات الخاطئة ضد حزبه وربما تلجأ «لخدع قذرة» في محاولة لعرقلة مساعيه لتولي الرئاسة. ويتفق عدد كبير من المحللين على أن أردوغان سيسعى لشغل منصب الرئيس حين تنتهي ولاية الرئيس العلماني الحالي أحمد نجدت سيزر في أيار التي استمرت سبع سنوات والتي رفض فيها العديد من مشروعات القوانين التي تقدم بها حزب العدالة والتنمية.. ولا يحق لسيزر وهو قاض سابق إعادة ترشيح نفسه. وفي تركيا يتمتع رئيس الوزراء بسلطات أكبر بينما يحظى منصب الرئيس بقيمة رمزية بوصف شاغله خليفة كمال أتاتورك المؤسس المحبوب لجمهورية تركيا الحديثة. ومن حق الرئيس تعيين عدد كبير من المسؤولين المهمين وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة.
ويقول حسين باقجي من جامعة الشرق الأوسط الفنية في أنقرة «نعلم جميعاً ان أردوغان يريد ان يكون رئيساً وإلا لكان أعلن صراحة الآن انه لن يخوض الانتخابات»، ولكن استطلاعات الرأي تبين ان المواطنين لا يريدونه رئيساً، إذ بيّنت هذه الاستطلاعات ان نحو ثلثي الأتراك يعارضون تولّي أردوغان منصب الرئيس على رغم انه لا يزال أكثر المرشحين شعبية متقدماً على جميع المنافسين المحتملين.
المثير في هذا الصدد هو أن رئيس الحكومة نفسه يعلم كل ذلك بيد أنه كان ولا يزال يتمنى لو أن المشهد السياسي غير ذلك، بمعنى أن يكون أقل رفضاً وأكثر تسامحاً، والدليل على ذلك عدم إفصاحه عن رغبته الحقيقية. والهدف تأجيل ساعة المواجهة على أمل أن يرضخ الجميع للأمر الواقع، وللعملية الديموقراطية، وخاصة أن الأغلبية التي يتمتع بها حزب العدالة والتنمية هي السند الوحيد لمرور أردوغان الى سدة الرئاسة.
ولأن الأغلبية لم تعد مطلقة، يأتي إصرار رئيس الحكومة على رفض فكرة إجراء انتخابات برلمانية مبكرة وقبل الاستحقاق الرئاسي تحديداً الذي يتم من خلال البرلمان كل سبع سنوات حسب الدستور، وهو ما تطالب به المعارضة متمثلة بصورة أساسية في الشعب الجمهوري، بالإضافة الى الرئيس الحالي أحمد نجدت سيزر، والسبب معروف وهو ان «العدالة» الحاكم لا يضمن حصوله على الأغلبية في حال إجراء الانتخابات النيابية.
وحتى يزداد الأمر تعقيداً والتباساً يدرك الواقع السياسي ان أردوغان بطموحه الجارف لا يريد فقط منصب الرئيس، الشرفي أكثر منه التنفيذي، بل يسعى لأن يصبح رئيساً لتركيا، وليس رئيساً للجمهورية التركية، والفارق هائل. بيد أن الكواليس في مقر الحزب في حي بلجت الشهير في العاصمة أنقرة تتحدث حتى هذه اللحظة عن نزوع جارف من جانب رجب طيب أردوغان نحو النموذج الرئاسي الأميركي، إذ قيل نقلاً عن لسان أردوغان نفسه: هل سمع أحد في العالم من يقول بوش رئيس للجمهورية الأميركية؟! هذا هو بيت القصيد!!
قبل أسابيع خرج شقيق تورغوت أوزال بحديث مثير تنبّأ فيه باغتيال أردوغان مثلما اغتيل الرئيس الراحل الذي تولى رئاسة الجمهورية التركية في الفترة من 1989 حتى وفاته الدرامية في 17 أيار 1993، وعلى رغم انها كانت غيبوبة سكر تلك التي أصيب بها رئيس الحكومة الحالي في 17 تشرين الأول الماضي، سرعان ما ربط قطاع من الرأي العام كلام الاغتيال بتلك الواقعة.
لكن بعيداً من ادعاءات عائلة الرئيس الراحل المصرّة على ان أوزال مات مسموماً سنتوقف عند دلالة المقارنة. فتورغوت أوزال كان يحلم بأن يكون رئيس تركيا وفقاً للنموذج الاميركي، والدليل على ذلك أنه ما إن صعد الى منصة الرئاسة حاول أولاً ان يحصل على صلاحيات تنفيذية لم يستطع أن ينالها بحكم الدستور فأخذها عنوة بفضل كاريزمته الطاغية التي كادت تقترب من كاريزما أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة.
وثانياً حاول ان يكون انتخاب رئيس الجمهورية بالانتخاب المباشر لا من طريق البرلمان، إلا أن رئيس الحكومة آنذاك سليمان ديميريل وقف له بالمرصاد ووأد كل المحاولات الرامية الى تغيير طريقة اختيار رئيس الجمهورية. ومن سخرية الأقدار ان ديميريل نفسه عندما أصبح رئيساً للجمهورية حاول المسلك نفسه لكن البرلمان أجهضه، وها هو أردوغان يعود من جديد لطرح الماضي وبالتفاصيل نفسها، فهل سينجح؟؟
وهكذا تتضح صعوبة الموقف أمام أردوغان، وعلى الرغم من ان عملية اختيار رئيس الجمهورية باتت قاب قوسين، إذ أمامها ثلاثة أشهر فقط، تبدو هذه الشهور بالنسبة إلى «العدالة والتنمية» الحاكم وكأنها سنوات. فالمعركة ليست سهلة، وأردوغان يعلم ان لديه أغلبية في البرلمان، لكن ما الذي يضمن أن تستمر الأغلبية بعددها نفسه حتى موعد انتخاب البرلمان الرئيس الجديد للجمهورية التركية؟
* كاتب سوري