حسين عبد العزيز *
يعتبر طرح الديموقراطية في الوطن العربي طرحاً مضاعفاً، ليس فقط لغياب الديموقراطية على أرض الواقع فحسب، بل أيضاً لأن التاريخ الاجتماعي والسياسي للمجتمع العربي لم يؤسس لثقافة سياسية من شأنها أن تمهّد الطريق على الأقل نظرياً لضرب من الممارسة الديموقراطية كما هي الحال في أوروبا الديموقراطية.
وهذه النقطة على غاية من الأهمية على رغم أن العلاقة بين تاريخ الفكر السياسي الموروث وعملية الانتقال إلى الحداثة ليست علاقة سببية، أي إن الأول ليس سبباً ضرورياً للثانية، ولكن مع ذلك فإن التاريخ الموروث يشكل شرطاً ضرورياً لتلك العملية، مع التفريق الواضح بين السبب والشرط، فأوروبا لم تنتقل من العصور الوسطى إلى الحداثة دفعة واحدة، إذ لا يوجد في السياق التاريخي لتطور المجتمعات تلك القطيعة الإبستمولوجية التي تحدث عنها غاستون باشلار وتوماس كون في العلوم الطبيعية وميشال فوكو في العلوم الإنسانية، بل كان الانتقال يجري عبر تداخل الحديث بالقديم وذلك بإعادة إحياء الموروث اليوناني ــ الروماني لمواجهة الكنيسة والإقطاع لمصلحة السلطة الزمنية السيدة. وكان لفلسفة أرسطو السياسية والقانون الروماني وبعض المفاهيم السياسية السائدة في العصور الوسطى كالميثاق أو العقد، القانون الطبيعي، الحق الطبيعي، قانون التولية... إلخ، دور استراتيجي في عملية الانتقال من العصور الوسطى إلى الحداثة.
أما في المجتمع العربي فالصورة مقلوبة، لأن المجتمع العربي ليس مجتمعاً منتجاً للمفاهيم السياسية، بقدر ما هو وعاء يحتضن المفاهيم الأجنبية المستوردة بغية الارتقاء بالواقع السياسي العربي، وغياب عملية إنتاج المفاهيم لناس معينين دليل على غيابها في مجالهم الثقافي ــ الحضاري، ودليل آخر على القطيعة الحاصلة بين الفكر ومضمونه الإيديولوجي، وإذا ما كان ثمة تحديث هنا فهو يقتصر على مستوى الخطاب فقط.
من هذا المنطلق يمكن أن نفهم عملية المقارنة التي أصبحت من أدبيات الفكر السياسي العربي بين الواقع العربي من جهة، والتجربة الغربية التي أنجزت الديموقراطية تاريخياً من جهة ثانية.
وعلى الرغم من أن هذه العملية، أي عملية المقارنة يجب أن تكون لهدف إجرائي، نجد بعض المثقفين العرب قد تعاملوا مع هذه المفاهيم في صورتها المطلقة بعيداً من تعيّناتها وشروطها التاريخية، وبعضهم الآخر عمل على تقطيع أوصالها من غير وعي بماهية المفهوم وسياقه التاريخي من جهة، وبالبنى الاجتماعية العربية السائدة من جهة أخرى، ولهذا لم تكن هذه المفاهيم في كثير من الأحيان معبّرة عن الواقع العربي.
فالمطالبة العربية بالديموقراطية مثلاً لم تكن ناجمة من معطيات واقعية كوجود فئات اجتماعية واقتصادية ضاغطة تدفع السلطة إلى تغيير سياساتها الداخلية، بقدر ما هي رد فعل على توتاليتارية الدولة، وكذلك مفهوم المجتمع المدني ليس ناجماً أيضاً من وجود معطى سياسي اجتماعي يسمح لمجموعة من الأفراد أو المؤسسات بالعمل خارج نطاق الدولة، (من حيث إن أحد الجوانب المهمة في المجتمع المدني أنه حيّز مستقل يعمل مصدّاً للسلطة المركزية، ويشجع على وجود مناخات تتيح لجماعات أن تتبع مساراتها الخاصة بها من دون خوف من تدخّل السلطة)، وإنما جاء هذا المفهوم ردَّ فعل على فشل الديموقراطية من جهة، وعلى سيطرة البنى الأهلية على المجتمع من جهة ثانية، وعلى بيروقراطية الدولة ثالثاً.
لكن تأكيدنا غياب المعطى الواقعي للمطالبة بالديموقراطية والمجتمع المدني ودولة القانون على سبيل المثال لا ينفي من حيث المبدأ القدرة الإنسانية على الفعل، فالذات أو إرادة الفرد تؤدي دوراً مهماً في عملية التغيير، لكن الذات العربية هنا غير فاعلة لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، أهمها استغراق المجتمع في الدولة استغراقاً كلياً، الأمر الذي خلق ثقافة سياسية اجتماعية تتماهى مع ثقافة السلطة وليس لها أي ارتباط بقيم الحداثة الإنسانية، أما النخبة المثقفة فهي ما زالت في حالة من القوة لم تنتقل إلى الفعل، وبقي خطابها خطاباً فوقياً أو ترفاً فكرياً يظل صداه عاجزاً عن اختراق مكامن الفعل لدى القاعدة الاجتماعية. في كل الأحوال، إن الحديث عن الديموقراطية في العالم العربي، ليس ناجماً من وعي مبكر بالحداثة، بقدر ما هو تعبير عن أزمة، أزمة تطال الواقع العربي وخطابه السياسي في بعض الأحيان، ولهذا السبب رافقت هذه المفاهيم السياسية عملية تضخيم كبيرة جعلت من كل مفهوم مثالاً مطلقاً على الواقع أن يتطابق معه. ولا شك في أن عملية التضخيم هذه تعبّر تعبيراً دقيقاً عن أزمة الفكر السياسي العربي، فالرغبة المطلقة في الانتقال المباشر بالمجتمع العربي من ما قبل الحداثة إلى الحداثة، تتضمن رد فعل ليس فقط على هذه الرغبة المطلقة، وإنما أيضاً على الحداثة نفسها، التي إذا لم تأتِ ضمن سياقها التاريخي فستكون سلباً لذاتها ولحاملها الاجتماعي الاقتصادي السياسي.
وعليه فإن الحديث عن الاندماج المجتمعي والمشاركة السياسية في العالم العربي لا يتفق مع الخبرة التي يعانيها هذا المجتمع، الأمر الذي يفرض قلب المنظور: فعوضاً من الاعتقاد بأن في وسع الذات أن توجد نمطاً معيناً من المؤسسات السياسية والاجتماعية، ينبغي للمؤسسات أن تنشئ نمطاً معيناً من الشخصية يتفق ويستجيب لأبعاد الممارسة الديموقراطية مستقبلاً، وهذا يعني أن المسألة تتركز في العالم العربي على المؤسسة والدولة، وهي مرحلة مهمة للانتقال إلى الديموقراطية، على عكس المجتمع الغربي الذي تدور المسألة فيه حول الذات باعتبارها أحد تجليات الحداثة.
ولا يعني ذلك بأي شكل من الأشكال رفض الديموقراطية نفسها من حيث إنها عملية سياسية واجتماعية واقتصادية، فكثير من الديموقراطية سيجلب المزيد منها، وبالتالي لا مفر منها لأي نهوض مجتمعي، لكن في المقابل المطلوب هو مؤسسات حديثة لا أيديولوجيات حديثة، وسلطة حديثة لا غايات حديثة، ومجتمع حديث لا قيم حديثة، وإنسان حديث لا أفكار حديثة، فالمشكلة لدى البعض هي الرغبة السريعة في عملية التغيير، وما حصل في الغرب عبر قرون يسعون إلى تحقيقه عبر سنوات، متناسين أن الهوية القومية تقدمت في الغرب على سلطة الدولة، وانعكس مفهوم الأمة بثقافة مشتركة أدت إلى انبثاق طبقة وسطى وسوق قومية قبل أن تتشكل الدولة المعاصرة، فيما السلطة السياسية أو الدولة في العالم العربي جاءت قبل الأمة وقبل الهوية الثقافية القومية وقبل تطور طبقة وسطى حقيقية وسوق قومية.
* كاتب سوري