بولس خلف*
لجنة بيكر ــــــ هاملتون حول العراق ليست مجرّد هيئة جمع معلومات وتحليل معطيات وتقديم توصيات شبيهة بمئات اللّجان التي تنمو كالفطر في الكونغرس ومراكز الأبحاث الأميركيّة. إنها أهمّ من ذلك بكثير. فهي لجنة مكونة من سياسيين كبار، حاليين وسابقين، ينتمون إلى الحزبين الجمهوري والديموقراطي اللذين يشكلان العمود الفقري للنظام الحاكم في أميركا. وزير الخارجيّة الأسبق، الجمهوري المحنّك، جايمس بيكر، ولي هاملتون السيناتور الديموقراطي السابق الخبير في شؤون السياسة الخارجيّة، يمكن تشبيههما بحرّاس الهيكل. وعمليّة اختيارهما كانت نتاج مسار معقّد بني على معايير دقيقة تهدف إلى حماية المصالح القوميّة العليا للولايات المتّحدة. وقد انتدب حماة النظام الرجلين لهذه المهمّة الدقيقة والخطيرة. (establishment)
لقد سبق نشر التقرير الشهير عن العراق، مجموعة من المؤشّرات تدلّ على أنّ حماة النظام في أميركا بدأوا يستشعرون خطراً على الأمن القومي والمصالح العليا لبلادهم من الخيارات السياسيّة الخارجيّة لإدارة الرئيس جورج بوش. ومن هذه المؤشّرات الانتقادات اللاذعة التي وجهها سياسيّون ومؤرّخون وباحثون، كانوا سابقاً من أشدّ الداعمين لإدارة الرئيس الأميركي وفريقه المقرّب. ومن هؤلاء نائب وزير الدفاع ريتشارد بيرل والأستاذ الجامعي الشهير فرانسيس فوكوياما وأحد منظري المحافظين الجدد كيفين فيليبس، الذي نشر كتاباً عن تحول الديموقراطية الأميركية إلى ثيوقراطية. غير أنّ أقوى هذه المؤشّرات جاء عبر نشر الصحافي بوب وودورد كتابه State of denial الذي انتقد فيه بشدّة الإدارة البوشيّة بعدما كان من أبرز داعميها. وبوب وودورد ليس شخصيّة أميركية شهيرة فحسب. إنّه الصحافي الذي كشف فضيحة ووترغايت التي أدّت إلى استقالة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، عام 1975. وهذه القضيّة ليست مجرّد مسألة خطيرة كشفها صحافيّ لامع، بل قرار اتّخذه الـ establishment الأميركي لإزاحة رئيس يجسّد إخفاقات حرب فيتنام، وإقفال هذه الحقبة السوداء من تاريخ البلاد.
في توصياتهما الـ79، المبنيّة على ستّة أشهر من العمل المتواصل ومئات المقابلات في عدد كبير من الدول، يقرع بيكر وهاملتون جرس الإنذار ليقولا لجورج بوش إنّ سياسته بدأت تهدّد المصالح العليا للبلاد، وليرسما له خريطة طريق يجب أن يسلكها للخروج من المأزق العراقي. وهو مأزق، إذا لم يُعالج، فقد يتحوّل إلى جرح كبير يستنزف قدرات أميركا العسكريّة والماليّة والسياسيّة، ويضرب معنويّات الجيش والشعب.
لقد كتب الكثير عن توصيات هذه اللّجنة، والعودة إلى تفاصيلها ليست موضوع هذا المقال، لكن إذا أردنا أن نشرح بإيجاز فلسفة بيكر ــــــ هاملتون، فهي دعوة موجهة إلى الإدارة كي تتخلّى عن سياسة العصا التي لم تؤدّ ثمارها وبدأت تؤذي حاملها، وتعود إلى مبدأ العصا والجزرة. ومن هنا يفهم اقتراح اللّجنة على الرئيس جورج بوش ببدء حوار مع إيران وسوريا (التوصية التاسعة) من أجل الاتّفاق مع هاتين الدولتين على تسوية في العراق، ويعرف جايمس بيكر وهو وزير الخارجيّة الأسبق ومعه لي هاملتون، أنّ التحدّث مع هاتين الدولتين لا يمكن أن ينحصر بموضوع واحد، بل سينسحب على كلّ الملفّات الأخرى. ليس صحيحاً أنّ الرئيس جورج بوش رفض بشكل قاطع توصيات اللّجنة، فهو لم يقل ذلك يوماً. كما أنّه لم يعلن عن قبولها. بل أطلق خطّة سمّاها الاستراتيجية الجديدة، ليس فيها شيء جديد إلا اسمها. فالرئيس الأميركي يعرف جيّداً أنّ نجاحه في العراق لا يمكن أن يتوقّف على إرسال بضعة آلاف من الجنود الإضافيين، ولا على تفكيك ميليشيات من هنا وإغلاق حدود من هناك. ليست هذه الإجراءات السطحيّة التي تغيّر المعادلات وتطلق ديناميكيّات جديدة تنقذ الاحتلال من مأزقه. إن استراتيجية بوش الجديدة، المستوحاة من خطة أعدّها الباحث فريديريك كاغان، هي عبارة عن أداة تنفيذيّة هدفها تحسين الشروط ومواقع الإدارة تمهيداً للانتقال إلى مرحلة لاحقة. يعرف جورج بوش أنّه في نهاية المطاف لا سبيل له سوى العودة إلى توصيات بيكر ــــــ هاملتون. لكنّه يدرك تماماً أنّه لا يمكن بلاده أن تبدأ حواراً مع إيران في ظلّ موازين القوى الحاليّة. فهو يسعى، وقد قالها صراحة، إلى تقليص نفوذ إيران في العراق عبر سلسلة من الإجراءات العسكريّة والأمنيّة لتحسين شروط التفاوض. وقد أكّد جورج بوش في تصريح له منذ بضعة أيّام أنّه لا يحبّذ التحدّث إلى الإيرانيين «في الوقت الراهن»، إلا أنّه لا يستبعد ذلك في المستقبل. ويتّبع الرئيس الأميركي السلوك نفسه مع سوريا. فهو ظاهريّاً يبدي حزماً كبيراً، رافضاً البحث بأيّ موضوع مع دمشق التي «تدرك جيّداً ما ينتظره منها المجتمع الدولي». إلا أنّ الإدارة الأميركية تسعى جاهدة لتشكيل المحكمة الدوليّة في لبنان لاستخدامها ورقة ضغط عندما تقرّر التحدّث إلى سوريا. لكن جورج بوش لا يملك وقتاً وافراً في لعبة تحسين المواقع قبل بدء التفاوض. صحيح أنّ الحزب الديموقراطي لن يقدم على خطوات قد تؤدّي مثلاً إلى قطع التمويل عن الجنود الأميركيين المنتشرين في العراق. فهذه خطوة قد يراها الرأي العام «غير أخلاقيّة». غير أنّ الديموقراطيين لن يرفعوا كليّاً ضغطهم السياسي والمعنوي عن الإدارة. وقد سددوا صفعة قوية إلى الرئيس عبر التصويت على قرار غير ملزم يعارض إرسال المزيد من الجنود إلى العراق. تبدو الصورة كأنّ هناك اتّفاقاً ضمنيّاً لإعطاء فرصة أربعة أو خمسة أشهر للرئيس بوش كي يحاول تحسين شروط التفاوض. وبعد انقضاء هذه الفترة، سوف يعود الرئيس الأميركي، طوعاً أو مجبراً، إلى فلسفة بيكر ــــــ هاملتون. عندئذ سيكتشف الأميركيّون والعالم كيف أنّ «توصيات غير ملزمة» تصبح إلزاميّة عندما يعتبر الـ establishment أنّ الإدارة غير صالحة للحكم.
* كاتب لبناني