روجيه نبعة*
منذ اغتيال الرئيس الحريري قبل حوالى سنتين، أصبحت «التظاهرة» وسيلة التعبير السياسية الوحيدة بالنسبة إلى اللبنانيين. لقد عاشت البلاد على إيقاع تلك «التحركات الشعبية» التي بلغ عددها قرابة أربعين على امتداد سنتين، حتّى إنّ المعسكرين السياسيين الكبيرين قد أخذا أسماءهما من تواريخ التظاهرتين العملاقتين، وبنتيجتهما، بات مصطلحا «قوى 8 آذار» و«قوى 14 آذار» هما التسميتين شبه الرسميتين للحديث عن الأحزاب وجماهيرها التي احتشدت في هاتين المناسبتين.
يكمن التناقض الرئيسي في حقيقة أنّ أيّاً من تلك الاعتصامات، لم تحقّق شعاراتها ومطالبها. فعلى العكس ممّا قد يظنّه مناصرو «14 آذار»، فإنّ الانسحاب السوري لم يتحقّق أبداً نتيجة تظاهرتهم الآذارية الشهيرة، بل حصل بفعل صدور القرار 1559 وبعد الضغوط الهائلة التي مارستها القوى الساعية لولادة «الشرق الأوسط الكبير». ومن جهة أخرى، فإنّ الاعتصام المفتوح الذي تنفّذه قوى 8 آذار منذ الأول من كانون الأوّل الماضي في وسط بيروت، بالإضافة الى كلّ التحركات التي تواكبه، لم تؤدِّ الى إسقاط حكومة السنيورة على الرغم من أنّ هذا الهدف يبقى المطلب المركزي.
في ضوء هذه المعطيات يصبح مشروعاً طرح التساؤل عن الجدوى من استمرار اللجوء الى تلك التظاهرات والاعتصامات التي لم تجدِ نفعاً حتى الآن.
حين تكون الأهداف السياسية «عادية»، أي حين تكون «مقبولة» و«قابلة للتطبيق» من الأطراف المتنازعة، فإنّ الأمور تسير من دون تفسّخات في النسيج الوطني، بل تبقى التسويات ممكنة. لكنّ المشكلة تقع عندما تكون الأهداف التي يرفعها طرف سياسي معيّّّّّّّن نقيضة بالكامل لتلك التي يتسلّح بها الطرف الآخر، ويحصل ذلك حينما تكون تلك الأهداف «غير مقبولة» بالنسبة إلى الآخر الذي يعتبرها مسّاً جوهريّاً بمسلّماته. هذه هي الأوضاع المسيطرة على الحياة السياسية اللبنانية منذ الرابع عشر من شباط 2005. فقوى 14 آذار تحاول فكّ الارتباط بين لبنان والنزاع العربي ــ الإسرائيلي خطوةً أولى لبناء ما يسمّونه «الدولة القوية»، وهو ما يستحيل برأيهم قبل نزع سلاح حزب الله وفصل لبنان عن المحور الإيراني ــ السوري تمهيداً لإدراجه في خريطة «الشرق الأوسط الكبير». يحصل هذا في الوقت الذي تضع فيه قوى المعسكر المقابل أولويات غير قابلة للمساومة في أجندتها السياسية: تأليف حكومة وحدة وطنية مع حصّة وزارية تتمثّل بالثلث المعطّل الذي يعطيهم «حق الفيتو» على القرارات الكبرى، إخراج لبنان من دائرة الهيمنة الغربية، وأخيراً مقاومة مشروع الشرق الأوسط الكبير. كلّ هذه المعطيات تجعل من الأزمة اللبنانية مفتوحةً حتّى إشعار آخر.
أمام واقع أنّ الأهداف المعلنة غير مقبولة الى هذا الحدّ بالنسبة إلى المتنازعين، لا يبقى أمام الطرفين سوى الاختيار من بين أمرين: إمّا الاستسلام لحالة السُبات وعدم التحرّك، أو الانتقال الى أجندة تحرّكات متقدّمة، قد يكون «العنف» هو عنوانها، وهو يأخذ طابع الحرب الأهلية ــ الطائفية في لبنان. من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم ودراسة «وظيفية» التظاهرات والاعتصامات.
لقد اعتُمد خيار الاعتصامات والتحركات الشعبية لتفادي الانزلاق نحو أي من الخيارين النقيضين، وهي حالة يفسّرها الخبراء الاستراتيجيون بـ«القيام بالكثير من الحركات نتيجة انسداد أفق التحركات المفيدة». بكلام آخر، الاستعاضة عن الخطوات «الناقصة» بأخرى «استعراضية»، التي لا يقوم بها فرد أو مجموعة سوى لتحاشي القيام بأخرى.
هكذا أمكن المراقب أن يستشفّ الحرب الأهلية ــ الطائفية من خلال إشارات مرئية: الساحات المتقابلة والشوارع المتواجهة...
إذا كانت قوى 14 آذار هي المخوّلة إخضاع المعسكر المقابل من طريق الاعتصامات المتلاحقة عام 2005، فإنّ الوضعية والظروف قد تغيّرت منذ 2006 بعد التطورات الحاصلة في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية، التي أعادت لقوى المعارضة المبادرة الهجومية لوضع خصومهم ــ الذين تحوّلوا الى أعداء ــ في المواقع الدفاعية. غير أنّ أهداف التحركات الشعبية، معانيها والرهانات المعقودة عليها، تغيّرت جذريّاً بعد تبدّل الظروف.
على امتداد أشهر عام 2005، كان الهدف السياسي من التحركات الحاشدة هو تعديل الوجهة التي يسير فيها الخصم الذي لم يكن التعامل معه يحصل على أساس أنّه عدوّ. كان المُراد من هذه الوسيلة أن تكون «أداة تفاوض» بغية إرساء وضعية «مفاوضات ــ نزاعية» لا حالة صراع حقيقي. إذاً، عبّرت الاعتصامات عن رغبة في «التفاوض» من أجل الكسب، لكنّها لم تُظهّر استعداداً لـ«التحاور» من أجل التفاهم.
يمكن تصنيف كلّ التحرّكات الشعبية التي أعقبت الانسحاب السوري من لبنان، في خانة الصراع على السلطة، فيبقى همّ التمثيل الشعبي هو المحرّك لكلّ التعبئة الجماهيرية التي حصلت ولا تزال.
وبما أنّ كلّ فريق يسعى لإثبات أنّه يحظى بتأييد الأكثريّة الشعبية، نجده يحاول تجييش أكبر عدد ممكن من المتظاهرين في «حرب أرقام مليونية»، ما أدّى الى اختزال تعريف التمثيل الشعبي بنسب أعداد الحاضرين في الساحات. كلّ شيء بدأ يتغيّر عام 2006. ظهر العنف في مناسبات عديدة أهمّها: 5 شباط (أحداث حرق السفارة الدنماركية في الأشرفية كردّة فعل على نشر صور كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد)، وأحداث الأول من حزيران (بعد بثّ برنامج فكاهي يصوّر السيد نصر الله بشكل اعتبره البعض مهيناً). حتّى ذلك الحين، كان واضحاً أنّ شيئاً ما يتغيّر، لكن ليس بشكل جذري بعد.
* كاتب لبناني
(ترجمة أرنست خوري)