حبيب فياض
قم فأكْتُب عنك

كان يعوزنا هذا الرحيل، بعد، حتى تكتمل دورة أحزاننا، ويطفح كيل همومنا، ويتلاشى ما تبقى من ابتسامات مصطنعة على شفاهنا... وكنا نحتاج إلى هذا الفراغ الذي خلّفه هذا الغياب حتى ننوء بأوزارنا وأحمالنا، ونـكتشف أحجامنا وخواءنا.
لم يــــــــــكن رحيله مستغرباً، وهو من الأكرمين الذين يخـــــــــتارهم دليل الموت بإتقان، لكنه رحل مبكراً وفي وقت بات فيه واحة يتفيّأ ظلالها بعض المتعبين، ونجماً يهدي، وسط الزحام، من أراد الوصول من السائرين.
لم يرحل مكرهاً، حزم أفكاره وحقائبه ومضى بإرادته... ولم يرحل فوراً، أخبرنا برحيله القريب ليلفتنا الى رحيله الآخر، غادرنا على دفعتين: الى لندن أولاً، لأيام، موحياً بعودته، ثم الى الأبد، ثانياً، دونما إيحاء بأية عودة... أراد، لوداعته، أن يخفف عنا وطـــــــــأة الغياب، وأن لا يـتكبّد مشقة الوداع.
لم يرحل مكرهاً، لكنه رحل حزيناً... لماذا؟ لم يـــــــــــعد يكفيه هذا الوطن ليحتضنه ويأويه، لقد كان مفجوعاً بهذا اللبنان رغم أنه أحبه ممتلئاً بالوجع ومكابداً للآلام ومزوداً بالحقيقة... وجد أن الحب وحده لا يكفي حتى يكون لبنان هو الوطن المشتهى، واستيقن أن الوطن يحتاج الى أكثر من اجتماع الناس والجغرافيا، حتى تُكتب له القيامة... استنكر أوجاع الناس ويئس من الوصول الى نهائية الوطن الذي يكون لسائر أبنائه، فاستقال من كل شي، وأدار ظهره لكل الخطوط الحمر، واختار السماء وطناً نهائياً له والتراب مكاناً أبدياً لراحته.
خـــــــــسرك لــبنان بعدما أيقنت أنك خسرته.
• • •
كـــــــــنا نراك كل يوم لدى وصولنا، لأنك كنت، دوماً، أول الواصلين ولم نكن نراك تغـــــــــــادر، لأنك كنت آخر المغادرين، وها نـــــــحن اليوم نراك للمرة الأولى، مغادراً، ولـــــــــــكن الى الأبد... مغادرة لا جيئة بعدها.
كنــــــــــــــت تبدأ يومك وأنت تطالع بحثاً عن «الخــــــــــبر ــ الحدث» لتوفيه حقه وتكشف عن خباياه، كتابةً وتحليلاً، وإذ أصبحت الــــــــــيوم أنــــــــــــت «الحدث»، فمن عساه سيكتب عنــــــــــــك ويوفيك حقك؟ أنت «الحدث» الذي لا يكتمل إلا بك... اخرج عن تواضعك... قم واكتب لنا عنك حتى نفهمك... حدثنا عن نفسك ولو لمرة واحدة وأخيرة حتى نكتشف خباياك ونفقه من أية طينة أنت.. فمن عساه سيكتب أفضل منك عندما يكون الحدث كبيراً.. بحجم غيابك.
• • •
لم تكن يوماً قاسياً إلا في غيابك، ولم تكن، قط، بخيلاً إلا حينما حرمتنا من حضورك.. وبين غيابك وحضورك ستبقى جوزف سماحة الذي اجتاح قلوبنا بعاطفته الصادقة، واستقر في عقولنا بثقافته الواسعة... كيف لا وأنت تحمل عقل الحكماء وخلق النبلاء ووداعة الأطفال؟
وجدنا فيك الكاتب والمثقف، ثم وجدنا وراء ذلك، الإنسان الإنسان الذي منه يولد الإبداع كتابةً وثقافةً ونبلاً..
عرفناك كاتباً فأُعجبنا بك.
ثم عرفناك إنساناً فأحببناك.
وفي الحالتين: أنت الإنسان، رائع، كما أنت الكاتب.
ماذا تبقى فينا من بعدك؟
إن ارتقاءنا من دونك صعب وممكن.
ولكن معك كان سيكون أكيداً.
سنستمر وأنت فينا ومنا
حتى لو لم تكن معنا.